عند كورنيش المنارة ، يتجدد المشهد يوماً بعد يوم من صورة سيلفي مع الحبيبة هنا ، ونظرة شوق في حديث دافئ هناك ، إلى صيادين ينتشرون ويتنافسون على ضربة الحظ ، كل من على صخرته يترقب سمكة يضيفها إلى سلته. يصل صياد خمسيني متأخراً، يلتحق بسلسلة الصيادين المنتشرة على طول الكورنيش . يختار زاوية يضع فيها سلته وعدة صيده. يعقد الخيط بصنارته ويقطّع سمك القريدس إلى أجزاء صغيرة ليستعملها طعماً للسمك. هو يأتي إلى هذا المكان منذ 45 عاماً. منذ أن كان طفلاً دأب على زيارة كورنيش المنارة على دراجته الهوائية ليشارك أباه في الصيد ، وورث عنه حبه للصيد، وللكورنيش وللبحر وللسمك كما ورث نصيحته بإستعمال القريدس بدلا من الخبز كطعم للسمك الكبير .
على كورنيش المنارة عادة ما يكون الصيادون أكثر من السمك الذي يتسلل بشكل خجول الى سلالهم ومع ذلك لا يتسلل اليأس الى قلوبهم ، لربما كان طُعم الكورنيش ألذ بكثير من طُعم القريدس.
الصيادون كثر على الكورنيش، و لا يوجد فرق كبير بين أن يصطاد مرتادوه سمكة، أو زبوناً أو عروساً أو حتى عريساً، فالتعارف يصبح سهلاً في هذا المكان، لعل السر في البحر أو في الكورنيش بحد ذاته.
هناك يبدأ الكثيرون حياتهم مع شريكة أو شريك، ولأن هذا المكان هو الأقرب إلى الحياة والعشق ، عشق الحياة أوالشريك وبخاصة لمن يفتش جديا عن شريك لتأسيس عائلة وللعيش سوياً.
“العرنوس” أو الذرة المسلوقة ، الفول والترمس وغزل البنات ، تراث شعبي ينتقل على عربات خشبية مصنوعة يدويا بطريقة بدائية تتوزع على الكورنيش ، وأهمها “العرانيس” التي لا تنقطع ولو في غير موسمها. إذ يصر الباعة على سلق الذرة المثلجة إصرارا منهم للحفاظ على تقليد بات جزءاً من حياة الكورنيش، وكثيرا ما يكون ” العرنوس” أول ضيافة من العريس للحبيبة.
وبين كل ذلك، يبقى هناك مكانٌ خاص بالعشاق الذين يتهامسون على “الدرابزين” وهم يراقبون الأمواج دون حسيب أو رقيب ويسرقون قبلة من هنا وإحتضانا من هناك . بينما يجلس العجائز على المقاعد يتابعون حركة الطيران والملاحة من وإلى لبنان وكأنهم يسافرون مع الطائرة والسفينة بذكرياتهم وهم على مقاعد الكورنيش .
الكورنيش لا ينام ولا يهدأ، يحافظ على حركة دائمة منذ طلوع الفجر وشروق الشمس من خلف صنين ، وحتى ساعات متأخرة من الليل، وكل زائر يحمل معه قصة مختلفة ، يرويها من خلال نظراته للمكان، كثير من الأشخاص يأتون ليلا للتخلص من أعباء الحياة اليومية وإرهاق العمل وغيرهم من يأتيه ليخاطب موج البحر ، ويرسل معها أشواقه للحبيب القابع خلف المحيطات .
بين هذا وذاك يتنفس الزائر من كورنيش المنارة أنفاس الحب ، ويترجمها عشقاً وصوراً وألحاناً وعزفاً ولهوا متحلقا حول موسيقي يعزف على عوده ألحانا من الماضي وينتقل من محمد عبد الوهاب وأم كلثوم الى فريد الأطرش وعبد الحليم حافظ ، وينتظر ما تجود به أيدي المستمعين المتحلقين حوله الذين ما زالوا يحنون لأيام الطرب الأصيل .
وجديد الكورنيش ، حجارة مرصوفة على شاطئه الصخري مقسمة بما يشبه العقارات يزورها من رصفها وكأنها بيوت مؤقتة ، بديلة عن المقاهي المجاورة للمكان في جوار الأمواج .
على رصيف المنارة ، كُلُّ يغنّي على ليلاه ، هناك مع غروب الشمس و هدير الموج ورذاذه المتناثر على وجوه المارة ، يحار المرء كيف لهذا اللسان الممتد على مسافة ثلاثة إلى أربعة كيلومترات أن يحتضن هموم الآلاف من الناس ..غناء ورياضة وعشقا ولهوا ، ومشهدا يتجدد في كل اّن ، وكل هذا وأكثر منه تجده …عالكورنيش.
إكرام صعب
[email protected]