ليلة مسحت دمعتي بفستاني الأبيض …

وفي تلك الليلة لم يكن يشغل بالي تفاصيل الفرح أو بطاقاته وزهوره وزغاريده ولا موسيقاه وزينته ، كل ما شغلني آنذاك معرفة ما إذا كان الطريق الذي سيأخذني من بيروت إلى بيتي الزوجي الجديد في منطقة البقاع سيكون آمناً وسالكاً .
الكل انشغل بالترتيبات ، الدعوات ، الحلوى.. ووحدي انشغلت بالتلفزيون ، تسمرت أمامه لساعات غير آبهة لتحديد موعد مصفف الشعر ولا حتى للعناية بالفستان ، كيف لا ؟ وكانت الليلة التي حقق فيها العماد ميشال عون جزءاً من حلمه بالوصول الى الكرسي تصادف عشية ليلة زفافي مهما بلغت الظروف من شحن أو تشنجات .
كانت ليلة الثاني والعشرين من أيلول سبتمبر من عام 1988 عشية تسلم العماد عون الحكومة العسكرية الإنتقالية من الرئيس السابق أمين الجميل وكان الجميع يخشى من تداعيات تلك الليلة وما سيصير اليه البلد فيما لو فشلت المحاولة ، وكانت تلك الليلة من الليالي الأخيرة لي في منزل والديّ أمضيتها قلقة، باكية على مصير وطن لأمسح دمعتي وأنا ألبس فستاني الأبيض .
بزغ فجر الخامس والعشرين من أيلول نفسه ، (يوم زفافي) فأيقنت بأن الأمور استقرت نسبياً وأن كان ذلك على حذر ، فلبنان عاش حينها عهد حكومتين واحدة عسكرية في قصر بعبدا وأًخرى مدنية برئاسة الدكتور سليم الحص ففي ذاك اليوم ، تهيّب والدي العسكري المتقاعد من صعوبة الموقف ومن المأزق الجديد الذي ينتظر لبنان ، وبكيتٌ مرتين واحدة لأني سأغادر بيروت المدينة التي أٌحب، ومرة أخرى لشدة خوفي من خسارة لبنان ، ولا أخفي سراً أن والدي كان فرحاً كما العديد من العسكريين بوصول العماد عون على رأس الحكومة العسكرية “فهو الذي أتى ليقارع النظام السوري ويخلصنا منه” قالها لي والدي مبتسماً متفائلاً بلبنان مستقل وبعودة الهيبة حينها الى الجيش اللبناني .
كل أمال والدي لم تصل الى مبتغاها ، وبالتالي لم يتمكن لبنان من تخطي المجهول ليدخل في حرب ضروس قام بها العماد الرئيس وخصمه السوري حينها وحليفه الحالي اليوم .
وبزغ مجدداً صباح جديد كان في الرابع عشر من آذار عام 1989 ، صباح أوجعتني أخباره التي وصلتني الى البقاع وأنا تائهة بين المناطق لأتواصل ولو هاتفياً مع بيروت وأطمئن عن أهلي وأبناء الحي البيروتي والجيران دون جدوى ، ليخبرني الراديو بأن رائحة الموت فاحت مجدداً في بيروت ، ونالت هذه المرة من أصدقاء ومقربين خطفتهم قذائف العماد بضربة أولى عند تقاطع الأونيسكو _وزارة التربية الوطنية في العاصمة بيروت.
لتكر السبحة بقذائف متتالية أغرقت لبنان ومناطقه كافة وصولاً الى البقاع .
وتمر الأيام ثقيلة وموجعة وأنا متأبطة جهاز الراديو مذعورة على لبنان وبيروت دامعة على بيوتها التي مزقتها القذائف وكنت اتابعها في صور الصحف التي كانت تصلني بصعوبة نظرا لتردي الأوضاع … وأفيق على خبر لجوء رئيس الحكومة العسكرية الى السفارة الفرنسية بآلية عسكرية .
وعلى وأنغام أغنية ماجدة الرومي “قومي يا بيروت قومي ” التي كانت في أوجها آنذاك سمعت صوت مولودتي وكأنها كانت تقول “خلص إنتهى كل ألم ..قومي يا أمي قومي” .
وفعلا إنتهى كل ذاك التاريخ ليعود الوطن الى أهله مع إتفاق الطائف ويأتيني جواب لسؤال لطالما رددته على مدى عشرين عاماً “ترى هل تنتهي الحرب في لبنان؟”
لماذا أعود بالذاكرة اليوم ؟ الى وجع انتقل معي من بيروت والى بيروت ، ربما أردت أن أترك رسالة للأجيال مفادها “ما تعيشونه اليوم ليس إلا نقطة في بحر عايشناه في حقبة الثمانينيات ” فثوروا ولا تترددوا واكتبوا التاريخ الحديث بأناملكم ولا تنسوا الماضي الذي كتبته الصحف اللبنانية في الثمانينيات ، لكن حذار أن تفتحوا أبواب الماضي التي أقفلها إتفاق الطائف..
اليوم أعيش الإحساس نفسه الذي عشته قبل عقود خلت ، الإسم نفسه ،القلق نفسه، عشق كرسي الرئاسة نفسها .
وحدها ثورة 2019 هي الأمل المتبقي في لبنان الغد علّها تخطو خطواتها الجريئة لتضع اللمسات الأخيرة على ولادة وطن ، وطن عاش فيه جيل وأنا منه حكاية عهد عرفنا كيف بدأ ولا نعرف كيف سينتهي .
ويبقى لبنان.
إكرام صعب
[email protected]

لمشاركة الرابط: