حين نتحدّث عن الفوضى على الطرقات في لبنان، غالبًا ما ينحصر النقاش في أسباب مباشرة: غياب تطبيق القوانين، سوء البنية التحتية، أو ضعف التوعية المرورية، بالرغم من المجهود الجبّار الذي تبذله جمعية اليازا (YASA).
لكن ماذا لو كانت هناك جذور أعمق لهذه الظاهرة، تمتد إلى أعماق النفس الإنسانية، وتشكل انعكاسًا جماعيًا لحالة مجتمع بأسره؟
في بدايات القرن العشرين، قدّم سيغموند فرويد، مؤسس التحليل النفسي، نظرية أساسية حول القوى التي تحرّك السلوك البشري.
بحسب فرويد، يتصارع في داخل كل إنسان نزعتان متناقضتان: نزعة الحياة (Eros) ونزعة الموت (Thanatos).
نزعة الحياة تدفعنا نحو البناء، التعاون، الحب، وحماية الذات والآخرين؛ أما نزعة الموت، فهي تدفعنا لا شعوريًا نحو المخاطرة، التدمير، والعدوان الذاتي أو تجاه الغير.
قد تبدو هذه النظرية بعيدة في الظاهر عن زحمة السير وأبواق السيارات في شوارع بيروت وطرابلس وصيدا، لكنها في الواقع تتيح لنا قراءة مغايرة تمامًا لهذا المشهد اليومي المألوف: قيادة متهورة، استعراض سرعة، سباقات غير معلنة بين السائقين، ناهيك عن سلوكيات راكبي الدراجات النارية والتوك توك والشاحنات، وغياب شبه تام لروح المسؤولية الجماعية.
يمكن فهم كثير من هذه السلوكيات كتجلٍّ لنزعة الموت.
فالسائق الذي يتجاوز السرعة القصوى، أو الذي يقود عكس السير، لا يتحدّى القانون فحسب، بل يغامر بحياته وحياة الآخرين.
هذه المخاطرة قد تمنحه شعورًا بالإثارة والقوة؛ لكنها في العمق قد تُعبّر عن نزعة لا واعية نحو الأذى والتدمير، كجزء من صراع داخلي يعكس توترًا نفسيًا أو غضبًا مكبوتًا.
لكن ليس الأمر سلبيًا تمامًا، إذ يمكن في هذه الفوضى أن نلمح أيضًا أثرًا لنزعة الحياة، وإن كان مشوَّهًا:
السائق الذي يرفض القواعد قد يشعر بأنه يثبت حريته الفردية، في بلدٍ يشعر فيه كثيرون بالعجز أمام الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة.
بهذا المعنى، تصبح الفوضى على الطرقات مسرحًا للتعبير عن الذات، وعن رفض واقع غير عادل.
المشكلة أن هذا التعبير، حين يتم عبر سلوك خطر، ينقلب سريعًا من كونه نزعة حياة إلى كونه أداة تدمير.
إذ تتحوّل الشوارع إلى ساحات صراع، يتجلّى فيها العنف الرمزي والمادي، ويرتفع فيها عدد الضحايا سنويًا إلى معدّلات مرعبة.
ولا يمكن فصل ذلك عن السياق الاجتماعي اللبناني.
إذ يعيش الناس منذ سنوات طويلة في حالة من عدم الاستقرار السياسي، والأزمات الاقتصادية الحادّة، وفقدان الثقة بمؤسسات الدولة.
في هذا المناخ، يصبح القانون أمرًا شكليًا في نظر الكثيرين، ويصبح التمرّد عليه شكلًا من أشكال الاحتجاج غير المعلن.
لكن الاحتجاج الذي يتّخذ شكل تهوّر فردي لا يُغيّر الواقع، بل يزيد من ضغوطه.
هذا الصراع بين النزعتين لا يُعبّر عنه فقط في القيادة، بل نجده أيضًا في طريقة تعاملنا مع الفضاء العام: التعدّيات على الأرصفة، التلوّث، وحتى في أسلوب الكلام في الشارع.
كلّها تجلّيات لرغبة دفينة في تحدّي النظام أو تدميره، نتيجة شعور جمعي بالإحباط أو الغضب.
لكن الحل لا يكمن في القمع وحده.
تطبيق القانون ضروري، لكن الأهم هو بناء وعي جديد:
وعيٌ بأن القيادة ليست مجرّد تحريك مركبة من مكان إلى آخر، بل فعل اجتماعي وأخلاقي يعكس احترامنا للحياة – حياتنا وحياة من يشاركوننا الطريق.
ولعلّ السؤال الأعمق هو: كيف نحمي نزعة الحياة فينا ونمنحها المساحة لتظهر بشكل صحي؟
الجواب يبدأ من التعليم والتربية على احترام الذات والآخرين، وتعزيز الثقة بالدولة والقانون، وإيجاد مساحات آمنة للتعبير عن الغضب والاحتجاج دون أن يتحوّل ذلك إلى تدمير للذات والمجتمع.
في النهاية، الطرقات ليست مجرد شوارع من الإسفلت؛ إنها مرآة تعكس صورة مجتمع بأسره.
فإمّا أن نختار الحياة والنظام والمسؤولية، أو نترك نزعة الموت تسيطر فتزيد من جراح بلدٍ أنهكته الأزمات.
والاختيار، وإن بدا فرديًا، هو مسؤولية جماعية قبل كل شيء.
في نهاية المطاف، الفوضى على طرقاتنا ليست مجرّد صدفة ولا قدرًا محتومًا، بل انعكاس لصراع عميق في داخل كلٍّ منّا بين رغبتنا في الحياة وحبّنا لها، وبين نزعات خفيّة تدفعنا نحو المخاطرة والتدمير.
وبينما قد نشعر أحيانًا أن القانون عبء، أو أن التمرّد متنفس، يبقى السؤال الحقيقي: أي إرث نتركه لأنفسنا ولمن بعدنا؟
أن نقود بحبّ، أن نحترم القانون لا خوفًا، بل إيمانًا بقيمة الحياة، وأن ندرك أن كل تفصيل صغير في سلوكنا يعكس صورة مجتمع نريده…
هذا هو السبيل لنختار الحياة على الموت، والنظام على الفوضى، والأمل على اليأس.
فالطريق ليست مجرد مسافة نقطعها، بل مسارٌ نرسم به ملامح وطنٍ نحلم أن يعيش فيه الجميع بأمان وكرامة.
*حسن م. منيمنة
مهندس وخبير في التنمية، وناشط في “اليازا” للسلامة العامة







