إذا أخذنا بالاعتبار المقاربة الحالية للحكومة السورية، التي ترفض أي تسوية سياسية للصراع الحالي وتفضّل انتصاراً عسكرياً صريحاً، فإنه من غير المرجّح التوصل إلى مقاربةٍ تضمن تطبيق مبدأ «الأمن القانوني والقضائي» من خلال التفاوض، دون تغييرات جوهرية في ميزان القوى على الأرض. وفي ضوء هذه الدينامية، فإن تحقيق تقدم صلب في موضوع محاكمة جرائم الحرب المرتكبة خلال الصراع في سوريا، لا يمكن أن يحصل الآن إلا ضمن سياقٍ منفصلٍ عن العملية السياسية للتوصل الى سلام.
وعلى أي حالٍ فإن هناك، نظرياً، أربع آليات رئيسية يمكن اتّباعها من أجل تحقيق العدالة في سوريا فيما يختصّ بالإدعاءات المتعلّقة بحصول جرائم حرب فيها:
الآلية الأولى عن طريق محكمة سوريّة يمكنها النظر بهذه الانتهاكات باعتبارها جرائم محلية كما تفعل أي محكمة وطنية في أي بلد حول العالم، الثانية عبر محكمة دولية خاصة على غرار المحكمة الناظرة في جرائم الحرب في يوغسلافيا السابقة مثلاً، الثالثة اللجوء إلى المحكمة الجنائية الدولية، والرابعة عبر المحاكم الوطنية ذات الاختصاص الدولي.
إلا أنّ إتّباع أيٍّ من هذه الآليات يواجه عقبات يجدر تخطيها، إذ لم يكن ممكناً تفعيل ثلاثة منها حتى اللحظة، كما يبدو أن تفعيلها بعيد المنال اليوم، وهناك آلية واحدة تم تفعيلها من خلال عدة قضايا مرفوعة في عدة دول في العالم.
آليات مُعطَّلَة
الآلية الأولى المحتملة نظرياً هي المحاكم الوطنية، التي نادراً ما تقوم بالنظر في قضايا جرائم الحرب، ومع ذلك فإن حصول محاكمات على هذا المستوى أمر ممكن.
إن اعتماد هذا السيناريو يشبه إلى حد بعيد سيناريو محاكمة صدام حسين في العراق، ومحاكمة قادة من الجماعة الاسلامية في بنغلاديش بعد حرب الاستقلال. غير أن التحقيق في انتهاكات جرائم الحرب في سوريا عبر القضاء المحلي، أي الوطني السوري، مستحيلٌ حالياً. فمن الناحية الأولى هناك انعدام قدرة هذه المحاكم على العمل في ظل الفوضى السياسية والأمنية في البلاد، إذ أن القضاء المحلّي يتطلب وجود استقرار، في ظل سيادة وفعالية القانون والنظام، أولاً.
ومن الناحية الثانية، فإن وجود القضاء السوري في صلب دائرة التشكيك والولاء للنظام والبعد عن الحياد، يجعل قيامه بالنظر في جرائم الحرب أمراً شبه المستحيل، ذلك لأن تحقيق العدالة والمحاكمات من خلال المحاكم الوطنية يكون على يد القوى التي انتصرت في الحرب ضد الأعداء المهزومين.
تقدم محاكمة سيف الإسلام القذافي مثالاً مثيراً للاهتمام على ما ورد في الفقرة السابقة، إذ على الرغم من صدور مذكرة من محكمة الجنايات الدولية لمحاكمته، فإن سيف الاسلام سيحاكم في ليبيا. وفي حال الانهيار الكامل لنظام الاسد، أو نجاحه في البقاء عبر انتصارٍ ناجزٍ على خصومه، ستشكّل قضية سيف الاسلام القذافي نموذجاً لما يمكن أن تكون عليه العدالة في سوريا من خلال القضاء الوطني.
الآلية الثانية الممكنة هي المحكمة الدولية الخاصة، وقد طالبت بعض الأطراف، ومنها الولايات المتحدة الأميركية، بإنشاء محكمة دولية خاصّة على غرار ما حصل بالنسبة لرواندا ويوغسلافيا السابقة، وذلك بغية محاولة إرساء محاكمة فاعلة لعدد كبير من المتهمين. لكن هاتين المحاكمتين، أي رواندا ويوغسلافيا السابقة، أبصرتا النور وبدأتا النظر في قضايا جرائم الحرب بعد انتهاء النزاع، وعُقدتا تحت رعاية دولية.
هكذا، وعلى غرار القضاء الوطني، من غير المرجح أن تبصر المحكمة الدولية الخاصة النور قبل انتهاء الصراع الحالي، وهذا ما يجعل النظر في هذا الخيار غير ذي شأنٍ في الوقت الراهن. وعادة يتم تأسيس المحاكم الدولية الخاصة من أجل النظر في جرائم الحرب المرتكبة في نزاع واحد، ويجب أن يكون تأسيسها بناء على قرار صريح من مجلس الأمن. هذا يعني أن إنشاء هذا النوع من المحاكم يخضع لكل أنواع التسييس والتسويات والعقبات التي ترافق أي قرار يصدر عن مجلس الأمن، بما في ذلك احتمال استخدام عضو دائم العضوية لحق النقض (الفيتو) من أجل منع إنشاء هكذا محكمة في سوريا.
الآلية الثالثة المعطلة أيضاً حتى اليوم، هي المحكمة الجنائية الدولية، وبما أن سوريا ليست دولة موقعة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فإنه لا يمكن لهذه المحكمة ممارسة اختصاصها في سوريا إلا بعد موافقة مجلس الأمن الدولي.
وإذا أخذنا موقف روسيا في الاعتبار، وبدرجة أقل موقف الصين، الداعم النظام الأسد، فإنه من غير المرجّح موافقة مجلس الأمن على منح المحكمة الجنائية الدولية الموافقة على البدء بإجراءات النظر بجرائم الحرب في سوريا. ونتيجةً لهذا المأزق الذي يجعل مجلس الأمن الدولي يدور في حلقة مفرغة، فإنّ المحكمة الجنائية الدوليّة لا تملك فعلياً أي صلاحية للنظر في جرائم الحرب المرتكبة من قبل النظام السوري.
على الرغم من أن عرض ملف القضية المعروفة باسم «قيصر» أمام مجلس الأمن الدولي، شكّل قوّة دفع لكونه قدم عيّنة لعدد من جرائم الحرب التي يمكن أن تتولاها المحكمة الجنائية الدولية، فإن المعارضة القاطعة لذلك من قبل بعض الدول الأعضاء في المجلس حالت دون السير فعلياً في النظر بهذه الاتهامات. ومع ذلك، ما تزال «هيومن رايتس ووتش» وغيرها من المنظمات تدفع باتّجاه اعتماد خيار المحكمة الجنائية الدولية بصفتها الآلية الأفضل لمحاكمة المسؤولين عن جرائم الحرب في سوريا.
المحاكم الوطنية ذات الاختصاص الدولي
بعد كل ما تقدَّم، فإن الآلية الأكثر فاعليةً اليوم للنّظر بجرائم الحرب في سوريا تكون عبر المحاكم الوطنية ذات الاختصاص الدولي، وهي محاكم تسمو على المفهوم الجغرافي للدول وتمارس صلاحياتها بناء على قاعدة الولاية القضائية العالمية (Universal Jurisdiction)، وذلك اعتماداً على عوامل محددة تتعلّق بكل حالة قائمة بذاتها.
تتمتع الحكومات الأجنبية عادةً بحصانة تجاه أي محاكمة، وذلك استناداً إلى مبدأ «الحصانة السيادية» (Sovereign Immunity). ولكن بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فإن كل الدول المصنّفة على أنّها راعية للإرهاب مستثناة من مبدأ «الحصانة السيادية»، ويمكن بالتالي محاكمتها أمام المحاكم المدنية الأميركية. ثلاث دول فقط تقع ضمن هذا التصنيف الأميركي حالياً، وسوريا إحداها.
واحدٌ من الأمثلة على التّطبيق العملي للقانون الأميركي هو قضية الصحافية الأميركية ماري كولفين، التي قتلت في سوريا العام 2012 على يد القوات النظامية.
الدليل الذي قدّمه الادّعاء في هذه القضية كان أمراً صادراً ومرسَلاً عبر الفاكس، يأمر القوات الحكومية باستهداف الصحافيين. ومن الهام الإشارة هنا إلى أن هذه القضية تُعدُّ مثالاً على الدعاوى المدنية التي يمكن رفعها بموجب القانون الأميركي، وهو أمر مماثل لما يكمن أن يحصل عند تطبيق قانون جاستا JASTA بالنسبة للمملكة العربية السعودية، وبالتالي ليس هناك من تحديدٍ للمسؤولية الجنائية.
طبيعة القضية عنت أن الحكم القضائي الصادر يمكن فقط أن يكون على شكل تعويضات عن الأضرار المادية، وبالتالي لا يمكن سجن أي شخص له علاقة بالقضية، حتى في حال تواجده على الأراضي الأميركية. لكن حتى في هذه الحالة، يبقى من الصعب تحديد الممتلكات العائدة للحكومة السورية والتي يمكن للمحاكم الأميركية أن تقضي بالاستحواذ عليها كتعويضات.
لذلك، في هذه الحالة، فالحكم الصادر يبقى ذا طبيعة رمزية أكثر من أي شيء آخر.
في هذا السياق، وفي فرنسا تحديداً، فإنّ الصّور التي شكّلت ما يعرف بقضية «قيصر» وفّرَت الأرضية لبدء المحاكمة من قبل محكمة محليّة فرنسية. وليس هناك ضحايا فرنسيون في هذه القضية، لكن المحكمة اعتمدت مبدأ «الولاية القضائية العالمية» أساساً للنظر في هذه القضية.
طبقت فرنسا هذا المبدأ في العام 2010 للنظر في كل الأفعال التي تعتبر جرمية بموجب «معاهدة روما» المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية، لكن هناك 4 شروط (les quatres verrous) تحدُّ من تطبيق مبدأ «الولاية القضائية العالمية» في فرنسا.
على سبيل المثال، في القضايا المتعلقة بالتعذيب، على المتهم أن يكون متواجداً في فرنسا عندما يتم الادعاء عليه. وإلى ذلك، بالنسبة للإبادة الجماعية وغيرها من الجرائم ضد الإنسانية، يجب أن يكون المتهم مقيماً في فرنسا على الأقل.
المثير للاهتمام أن قيام هذه المحاكم بالنظر في القضايا المتعلقة بالتعذيب لا يخضع لشرط أسبقية القضاء الوطني، أي أن يكون القضاء السوري نظر أولاً في القضية، ذلك أن قيام القضاء السوري بذلك لا يعد شرطاً مانعاً للنظر بهذا النوع من القضايا أمام المحاكم الفرنسية، خلافاً للنظام الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، الذي ينص على وجوب رفض النظر في الدعوى إذا كان القضاء الوطني ينظر فيها، إلا إذا تم إثبات أن هذا القضاء الوطني غير راغبٍ أو غير قادرٍ على التحقيق الفعلي والمقاضاة.
وإذا أخدنا بالاعتبار غياب أي آليات لاعتقال المتهمين، فهذا يعني أنّه من الواضح أنّ المحاكم الفرنسية لا تملك سوى القليل من السلطة التنفيذية لتطبيق أحكامها. يمكن اقتياد المدعى عليه إلى المحكمة في حال عبر الأراضي الفرنسية، لكن بشرط أن تكون الاتهامات الموجّهة إليه منصوصاً عليها في معاهدة روما المؤسسة للمحكمة الجنائية الدولية.
قضية مازن صباغ التي حصلت مؤخراً تمثل تطبيقاً ضيقاً بشكل أكبر لمبدأ «الولاية القضائية العالمية» مقارنة بقضية «قيصر»، بما أنها تشمل شخصين يحملان جنسية مزدوجة فرنسية – سورية. وبما أنّ هذه القضيّة تتضمن تهماً تتعلق بالتعذيب وأخرى بجرائم ضد الإنسانية، وهي تهم نصت عليها معاهدة روما، فإنه يمكن النظر بهذه الدعوى أمام المحاكم الفرنسية استناداً إلى مبدأ «الولاية القضائية العالمية» إذا توافرت فيها الشروط الأربعة المذكورة آنفاً، تماماً كقضية «قيصر».
حيازة جنسية مزدوجة ليست شرطاً ضرورياً للنظر بالدعوى أمام المحاكم الفرنسية بحسب مبدأ «الولاية القضائية العالمية» لكن حمل المتهمين للجنسية الفرنسية يدعم الحجج الآيلة للنظر بالقضية في فرنسا.
تتميز هذه القضية بشكل بارز عن باقي المحاكمات الجارية في بلدان أوروبية أخرى مثل السويد أو ألمانيا، بأنها تحاول وبشكل مباشر محاكمة نظام الأسد عن الجرائم التي ارتكبها، في حين أن معظم المحاكم الجنائية في ألمانيا والسويد وغيرها من الدول، مرتبطة بمحاكمة جهاديين على المستوى الفردي أو محاكمة مجموعات مسلحة صغيرة، عن جرائم الحرب التي ارتكبها هؤلاء كأفراد أو مجموعات في سوريا.
واحدة من هذه القضايا على سبيل المثال، تتضمن محاكمة رجل لنشره صورة مع رؤوس مقطوعة لجنود من القوات النظامية السورية. وبعض هؤلاء الذين يحاكمون هم مواطنون يحملون جنسيات هذه الدول أو يحملون جنسيةً مزدوجة (ألمانية وجنسية ثانية) أو هُم أجانب (أي لا يحملون الجنسية الألمانية)، لكن العامل المشترك بينهم أنّهم جميعاً كانوا متواجدين على الأراضي الألمانية خلال المحاكمات.
من الناحية النظرية، يمكن رفع دعوى اتهام إذا كان المشتبه به موجوداً على الأراضي الألمانية، لكن هذا الشرط يجب أن يجري تطبيقه كذلك على مسؤولي النظام رفيعي المستوى، (المسؤولون العاديون أو الأفراد تتم محاكمتهم عن جرائم الحرب أمام المحاكم الألمانية)، ونتيجة لذلك لم تتم محاكمة أي من مسؤولي النظام السوري رفيعي المستوى حتى الآن.
لكن هناك جانب أقل إثارة لتطبيق مبدأ «الولاية القضائية العالمية» في سوريا، لا يشترط وجود أي عامل دولتي، والأدلة التي يتطلب توافرها في هذه الحالة هي تقريباً نفسها التي يجب توافرها في أي قضية جنائية يتم النظر فيها ضمن الهيكلية القضائية في بلدٍ معين.
في حالة النظر بقضية أمام الحاكم المدنية في الولايات المتحدة الأميركية، فإن الدليل المطلوب من الادعاء تقديمه هو في الحقيقة أقل من ذلك الذي تتطلبه أي محاكمة جنائية عادية، ذلك أن الحكم يكتفي ببراهين منطقية تؤكد أن احتمال وقوع الجريمة هو أكبر بكثير من احتمال عدم وقوعها.
بالطبع فإن هذا المستوى المنخفض لطلب الدليل يتوافق مع حقيقة أنه لا يمكن بموجب هذه القضايا المدنية سجن أحد، بل تقتصر الأحكام على التعويضات المادية.
ردينة البعلبكي
باحثة، ومنسقة برنامج الشؤون الدولية في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت
المقال نشر في صحيفة “الجمهورية ” الإلكترونية (المتخصصة في القضايا القانونية للثورة السورية )