لوحة نقولا إبراهيم سرسق… وعودة الرّوح إلى المتحف

هل هي مصادفة أن يتقارب الزمن ليجمع بين حدثين مترابطين؟ الأول يتمثل بحفل إعادة افتتاح متحف نقولا إبراهيم سرسق (26 أيار/ مايو 2023) بعد عمليات ترميم استغرقت ثلاث سنوات ليعود إلى استئناف نشاطه الفني واستقبال المعارض، والثاني ذكرى رحيل الفنان كيس فان دونغن Kiss Van Dongen ايار/ مايو عام 1968)؟
ولمن لا يعرف فان دونغن هو صديق هنري ماتيس وأندريه دوران وموريس دو فلامينك ذلك “العملاق المنسيّ” الذي رحل عن عمر يناهز الواحد والتسعين عاماً “في شبه لامبالاة”، في غمرة الثورة الطلابية وتداعياتها على الحوادث السياسية في باريس، غير أن ريشته تركت أجمل قطعة فنية، وهي اللوحة الشهيرة لمؤسس المتحف نقولا إبراهيم سرسق، التي كاد أن يودي بها انفجار الرابع من آب 2020، كي تعود إلى الحياة مجدداً بعد خضوعها لمحاولات ترميم معقدة ودقيقة قام بها الخبراء الفرنسيون في مركز جورج بومبيدو.
كأنّ عودة الحياة إلى المتحف ارتبطت بشكل أو بآخر بعودة لوحة صاحب القصر نقولا إبراهيم سرسق، من مسارات الأزمنة وتقلبات الدهر، كي تتصدر مكانها وتُعلّق حيث كانت في مكتبه في الطبقة الثانية من المتحف، المليء بالكتب والأيقونات والشمعدانات وخزائن من ذاكرة الثقافة. فهل الحوادث التي تعرضت لها اللوحة ترسم أقداراً جديدة وتكتب في عمرها سطوراً جديدة!
تتغير الأزمنة وتنزاح الأمكنة وتتبدل وجوه القيّمين على المتحف، ويبقى نقولا إبراهيم سرسق في صورة خلّدته بريشة آخر عمالقة مدرسة الوحشية Fauvism في فرنسا فان دونغن.
يبدو فيها سرسق شاباً بورجوازياً جالساً بهدوء على كنبة عصرية ببذلته الكحلية وياقة قميصه المنشاة وحذائه اللماع، يتطلع إلى زوّاره، من بعيد الأمل والرجاء لكي يبقى قصره الأثريّ العريق والمشيّد في عام 1912 على الطراز الإيطالي – القوطي المدمج مع عناصر شرقية كانت سائدة في العمارة العثمانية، على هضبة حي السراسقة في الأشرفية، ملتقى للفن ومنارة لا يخبو وهجها على مر الزمن.
ارتبطت حكاية اللوحة مع ولادة صالون معرض الخريف في متحف سرسق في 18 تشرين الأول/ أكتوبر من عام 1961، حين كشف النقاب لأول مرة عن المجموعة الفنية لنقولا إبراهيم سرسق، وكانت تشتمل على مجموعة من الأثريات والمقتنيات الثمينة من بينها لوحات لأصدقائه الفنانين من أمثال كيس فان دونغن وجورج صباغ وفيليب موراني وآخرين.
وكان قد أوصى بأن يؤول قصره الأثريّ بعد رحيله إلى مدينة بيروت كي يتحول متحفاً للفنون، كما جاء في وصيته أن يكون رئيس بلدية بيروت مشرفاً على المتحف، وأن تدير شؤونه نخبة من الشخصيات البيروتية.
وبعد استخدامه كقصر للضيافة ما بين 1953 و1960 استطاع الفنانون اللبنانيون المطالبة بتنفيذ تلك الوصية.
منذ عام 1961 بدأ صالون الخريف في متحف سرسق مسيرته في صدارة الحياة الفنية التي كانت قد تكرست قبل سنوات في معارض صالون الربيع في قصر الأونيسكو، بتنظيم مصلحة الشؤون الثقافية التابعة لوزارة التربية الوطنية ابتداءً من عام 1954.
ومهما تحدثنا عن أهمية صالون الربيع، غير أن الدور الذي لعبه متحف سرسق لا ينفصل عن ذاكرة بيروت في عصرها الذهبي. فهو استطاع أن يتزعم الطروحات العصرية الأكثر انفتاحاً على العالم الغربي، وأن يستقطب التجارب المحلية والعالمية، وأن يطرح الإشكاليات المتعلقة ما بين الموروث والحديث، وأن يفجر الصراع ما بين الواقع والتجريد وكذلك العلاقة ما بين الشرق والغرب. لذا حملت المعارض الخمسة المدرجة على قائمة أنشطة متحف سرسق تلك القيمة الاسترجاعية للماضي من خلال إلقاء الضوء على القضايا التي أثارها متحف سرسق في حقبة الحداثة خلال العصر الذهبي لبيروت، كما فتحت نوافذ المستقبل على تجارب معاصرة.
عصر الكوكتيل
تاريخ المتحف يفتح صفحة جديدة مع عودة اللوحة الزيتية الشهيرة التي تمثل صاحب القصر إلى مكانها. وهي صورة كاملة (من الرأس إلى القدمين)، يرجح تاريخها ما بين عامي 1926 – 1930، وتمتاز بأسلوب جريء في مضارعة الشّبه الناطق للشخصية بضربات لونية قوية تبرز وسط محيط لوني ما بين الرمادي والأزرق والترابي.
لوحة سرسق هي من بين خمس لوحات بورتريه رسمها فان دونغن لوجوه من المجتمع اللبناني، ما دفع إلى الاعتقاد بأنه زار لبنان في رحلاته إلى الشرق، بينما الواقع أن هؤلاء قصدوا محترفه في باريس، التي كانت وقتئذٍ قبلة ترحالهم.
تكشف اللوحة عن خفايا كثيرة وتفاصيل ما زالت مبهمة، فيقال إن الوجيه نقولا إبراهيم سرسق قد دفع ثمنها 20000 ليرة لبنانية، وهو مبلغ باهظ في ذلك الوقت، وأنها تساوي في أيامنا الراهنة وفق البورصة الفنية في باريس ما يقارب الثمانية ملايين يورو.
تعكس اللوحة تاريخياً ذروة الرخاء الفكري والثقافي لرجل من نخبة البورجوازية اللبنانية، إزاء الفنان والمستشرق الهولندي الأصل فان دونغن (1877- 1968) الذي عاش في باريس تحت أضواء الشهرة، التي تمتع بها كرسام بورتريه، إثر تنفيذه لوحات لوجوه كبار رؤساء الدول (أمثال ملك بلجيكيا والأمير آغا خان) والشخصيات الأدبية أمثال أناتول فرانس وميشال جيو، والكونيسات وممثلات المسرح حتى لقّب بفنان النساء بلا منازع.
كرس نفسه أساساً لدور رسام البورتريه الرسمي في هذا الجزء من القرن العشرين، بما يتوافق مع ذوقه للمتعة التي يجلبها المال، والتي أصبحت الاحتفالات الاجتماعية وقودها. كتب: “أريد أن أكون كما يقولون رسام الأناقة والموضة! لكنني لست ضحية للعالم، كما يميل الكثيرون إلى الاعتقاد. إنها مهنة مسلية. هذا كل شيء!”. بل إنه يحدد ذلك بحسب قوله: “البرجوازيون أغبياء وغير مهمين، والأثرياء الجدد مملّون، لكن اللوحات التي أرسمها لهم هي روائع”.
حين انتقل فان دونغن إلى مونبارناس، وهو مكان اجتماع عالمي للطليعة، كان أحد رساميها الرئيسيين، ينظم العديد من الحفلات في مرسمه المزين مثل قصر شرقي فخم.
في ذلك الوقت نمت دائرته وصار يتردد على الكتاب والمؤرخين وتجار التحف والفنانين. وفتح اللقاء مع الماركيزة لويزا كاساتي أمامه الأبواب على العالم، مستهلاً فترة يسميها هو نفسه بـ”عصر الكوكتيل” خلال “فترة الدوقة” هذه، وفقاً لما قاله الشاعر ماكس جاكوب.
بالنسبة إلى الشاعر والناقد أبولينير Apollinaire “كان هذا الملوِّن أول من استنبط من الإضاءة الكهربائية إشراقاً لونياً حاداً وأضفى عليه فروقات دقيقة. والنتيجة هي تسمّم وإبهار واهتزاز، واللون يحافظ على شخصية استثنائية، دون أن تغمره فكرة الظل”. فيما وصفه لويي فوكسيل منظّر الوحشية بالقول إنه: “ملوِّن متوقّد، يبحث عن تناسق الجلد الوردي ويفككه حيث يكتشف تلك الألوان الحمضية الخضراء، والأرجوانية الفاتحة، والأزرق الكهربائي”.
خلال عمله كناقد فني في المجلة الأميركية “إنترناشيونال استوديو” تعرّف فيلسوف الفريكة أمين الريحاني في باريس عام 1921 على الفنان فان دونغن.
في سياق زيارة الى محترفه الباريسي كتب مقالةً أدبية، كشف من خلالها عن تفاعل فان دونغن مع المجتمع الشرقي ووصفه بأنه: “ذلك الهولندي المولع بالشرق والشمس. هذا الرجل هو عالميّ الانتماء، وملامحه تدل إلى أنه يحمل إرثاً من عالم آخر. شخصية مميزة، واثق من نفسه، ساحر شديد الذكاء وعابث أحياناً… لكنه غريب الأطوار. فقد كتب في مقدمة معرضه يقول: “إن الحياة العذبة هي حقاً صالحة للشرب”.
لعل ما يُفرح في حضوره هو السلام الذي يسكن كيانه، فهو بلِحيته الكثيفة وعينيه الكبيرتين الزرقاوين يعبّر عن جدية عميقة تضيئها ابتسامة لطيفة متفهمة. نظر إليّ عندما رأيته لأول مرة، فبدا لي كأنه أحد أولئك الرسل المسيحيين… إنه مبشِّر ولكن بفرح الحياة.
وصف الريحاني فان دونغن بأنه رجل واقعي، إلى جانب كونه مثالياً في تفانيه. فطريقه إلى أفريقيا وإسبانيا ومصر، أوضح وأقصر وأقل إرباكاً وإعياءً من تنقله في باريس، فيكون مردود ذلك ارتقاءً روحياً عظيماً. فهو هولندي بالولادة، وباريسي في التّعلم، وشرقي بالفضول. فكرٌ غربي مقترن بروح شرقية، إنه لاتحاد ينبئ بالسعادة.
يقول الريحاني “في أمسية باردة من أمسيات كانون الثاني/ يناير: “أُسعدنا برؤيته في بيته في فيلا سعيد، خارج الشانزليزيه المطلة على غابة بولونيا Bois de Bologne، يا له من مكان، هذا الهيكل المخصص لفنه. يا لها من لوحات عن الشرق والغرب. إن فان دونغن لا يتكلم عندما يتأمل عمله. قمنا بجولة حول مختلف غرف المحترف المزينة باللوحات والمفروشة بالمقاعد الضخمة المنخفضة الارتفاع، إضافة إلى المتكئات المزدانة برسوم من لون اللوحات المعلقة نفسه. طفنا في رحابة المحترف حتى وصلنا إلى الطابق الثاني حيث الغرفة الرئيسية (حلم منتصف الليل)، الموحية بحلم شرقي، ذات فخامة حسيّة، تُشعر الزائر كما لو أنه في بيته. والبيت في فيلا سعيد صورة عن صالة عرض ليال عربية (Arabian Nights) في باريس منتصف الليل. نساء، نساء في كل مكان، لا بد أنهن باريسيات، شهوانيات، وعصبيات. نساء فاسقات ذوات عيون كبيرة رائعة زادها الكحل غموضاً. فمنهن مُغرٍ قاتل، تزيده حمرة الشفاه شهوانية. جَمَعهن السلوك الباريسي العصري، في إيماءات ومناخ اجتماعي يعود إلى تلك العناصر الغريزية الأكثر بدائية”.

المصدر: النهار العربي – مهى سلطان

لمشاركة الرابط: