الحزب .. والشارع .. والدستور!

في زمن الكوارث والمحن تتشابك العواطف مع الوقائع، وتضيع الحقائق في خضم الشعارات والإنفعالات، ويحلّ التهوّر مكان الحكمة، ويحتل الصراخ موقع الحوار، ويختلط الصالح بعزى الطالح، حتى يصعب على المرء تبيان الخطأ من الصواب.
ما يحصل على طريق المطار ليس بعيداً عن المشهد الدرامي في زمن المحن. فالبلد مازال يعيش تحت وطأة الحرب الإسرائيلية وما نتج عنها من كوارث إنسانية وإجتماعية وسكانية، لا سيّما في بيئة حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع. زادت الأمور تفاقماً على ما كانت تعاني منه الأكثرية الساحقة من اللبنانيين بعد الإنهيار المالي والإقتصادي والنقدي منذ خمس سنوات، والتي أسقطت ٨٠ بالمئة من اللبنانيين تحت خط الفقر، حسب دراسات البنك الدولي.
هذا الواقع المرير إنعكس بكل سلبياته على حياة اللبنانيين، بشكل عام، وعلى البيئة الشيعية بشكل خاص، سيّما بعد الضربات الموجعة التي تلقاها حزب الله إبان الحرب، وإستشهاد قائده السيد حسن نصرالله وخليفته السيد هاشم صفي الدين، والإرباك الذي أصاب العلاقة البنيوية بين الحزب وطهران، إبان الحرب، حيث بقيت المناصرة الإيرانية دون مستوى الضربات التي كان يتلقاها الحزب وقواعده الشعبية، الأمر الذي أطلق العنان للشائعات، إثر إغتيال الأمين العام للحزب، بأن إيران تخلَّت عن حزب الله بصفقة «مشبوهة» مع الإدارة الأميركية، والبعض إعتبر أن إيران «باعت» الحزب وأمينه العام مقابل ضمانات أميركية بعدم قيام الدولة الصهيونية بضرب المنشآت النووية الإيرانية.
هذه المعطيات التي تتحكم بالواقع الشيعي قد تجعلنا أكثر قدرة على الإحاطة بخلفيات المخاض الحاصل حالياً في البيئة الشيعة، والتي أعادت الحياة إلى شعار «شيعة .. شيعة». الذي سبق للشهيد حسن نصرالله أن رفضه في إحدى خطاباته، وإعتبره شعاراً إستفزازياً للآخرين، ولا يُعبِّر عن القِيَم الدينية والأخلاقية للشيعة.
ويمكن إختصار بعض تلك الخلفيات بالنقاط التالية :
١ـ الإستهداف من الداخل: ليس صحيحاً الشعور المهيمن على بعض مواقع القرار بأن ثمة أطرافاً لبنانية تُمعن في إستغلال الواقع الراهن لإستهداف بيئة الحزب، والمشاركة في الحصار الخارجي المفروض عليها.
لقد أظهر هذا الإعتقاد الخاطئ جملة تصرفات خاطئة، بل صادمة، للشركاء في الوطن الذين تضامنوا مع إخوانهم النازحين والمتضرِّرين من الإعتداءات الصهيونية. أولى تلك التصرفات عراضات الدراجات النارية التي جابت شوارع بيروت وضواحيها الشرقية، والشعارات الطائفية والمذهبية المقيتة التي كان يرددها صبية الدراجات.
وجاءت أعمال الشغب على طريق المطار، والتعرُّض لقافلة قوات الطوارئ، وحجز حرية المسافرين عبر المطار، لتزيد الوضع نفوراً من أكثرية اللبنانيين، خاصة وأن المطار هو صلة الوصل الوحيدة مع العالم، فضلاً عن مكانة الدور الذي تقوم به اليونيفيل عند اللبنانيين، والذي يشكل صمام أمان للجنوبيين أولاً، بمواجهة غدر العدو الإسرائيلي.
أما بالنسبة لجهود تأليف الحكومة، فقد أصبح معروفاً أن المشاورات مع الثنائي الشيعي أخذت وقتاً طويلاً، وكانت أحد أسباب تأخير إعلان الولادة الحكومية، نظراً لحرص الرئيسين عون وسلام على إحتواء الوضع الشيعي في هذه المرحلة الصعبة بالذات.
٢ـ الضغوط الدولية وتأخير الإنسحاب الإسرائيلي: لم يعد خافياً أن لبنان يُعتبر في هذه الفترة تحت المراقبة الدولية، بل بالأحرى تحت «الوصاية الدولية»، رغم كل ما نتغنى به، ونزايد على بعضنا في موضوع السيادة والإستقلال. وكلنا يعرف أسباب وصولنا إلى هذا الدرْك المحزن، دون أن نتلهَّى بتبادل الإتهامات بالفشل والفساد تارة، وبالعمالة وأخواتها تارات أخرى.
وهذا يعني أن القرارات الرسمية اللبنانية موضوعة تحت المجهر الدولي، وممنوع الخطأ والسهو، حتى لا نفقد ما بدأنا نستعيده من ثقة الخارج. ومن هنا فإن الرسائل الأميركية والأوروبية بضرورة التقيد بتدابير الأمن المشدَّد في مطار بيروت، ومنع دخول المساعدات العسكرية والمالية إلى الحزب عبر المطار، لا بُدَّ من أخذها على محمل الجد المطلق، تفادياً للوقوع بما هو أعظم وأدهى مرة أخرى.
منع مجيء الطائرات الإيرانية إلى مطار بيروت، ليس قراراً إستنسابياً أو كيدياً، بقدر ما هو نتيجة إنذار إسرائيلي تبلَّغته الجهات الرسمية من الطرف الأميركي في اللجنة الخماسية. وعلى الفور بدأت الإتصالات الديبلوماسية تنشط في أكثر من إتجاه لمعالجة هذا الأمر الطارئ.
وهنا تبرز جملة تساؤلات مبررة: هل تعطيل طريق المطار يخفف من وطأة الإنذار الإسرائيلي؟ هل الإعتداء على قافلة اليونيفيل يُلغي الإنذار الإسرائيلي؟ هل ترداد شعارات من نوع :شيعة ..شيعة يُخيف العدو الإسرائيلي؟ ومن يضمن سلامة منشآت مطار بيروت في حال نفذ العدو الإسرائيلي تهديداته الخرقاء؟ وهل إتهام العهد الجديد بالضعف، وبالتخاذل والتنازل يعزز الموقف الوطني اللبناني، في مواجهة الضغوط الخارجية؟
٣- تأخير ورشة الإعمار: ثمة كلام مُغرض عن تأخير إطلاق ورشة الإعمار في إطار تشديد الحصار على الحزب وبيئته الشعبية، بهدف الضغط لتسليم سلاحه. لا ضرورة للخوض في جدالات بيزنطية حول محاولات ربط ورشة الإعمار بمصير سلاح الحزب. الكل يعلم أن أموال الإعمار لن تصل قبل نيل الحكومة الجديدة الثقة وإطلاق برنامج الإصلاح. وأن موضوع السلاح مرتبط بالسياسة الدفاعية التي وردت في خطاب القسم، ومن ثَمّ في حق الدولة إحتكار حمل السلاح، والدفاع عن أرض الوطن.
الدولة هي المسؤولة عن إعادة الإعمار، والأموال من المفترض أن تصل إلى الدولة، وليس لأي طرف آخر.
لا نريد الحديث عن هواجس الفتن الطائفية والمذهبية. لأن كلَّ همِّنا اليوم أن تكفَّ إيران عن إستغلال شيعة لبنان، والتضحية بشبابهم وتحمليهم مآسي حروب على مدى أربعين سنة، لحساب أجندات إيرانية ذات طموحات إقليمية، لا ناقة ولا جمل لأهل الجنوب والبقاع فيها، لا من قريب ولا من بعيد!
عندها تصح مقولة الشيخ نعيم قاسم: «نحن تحت سقف الدولة، وإتفاق الطائف والدستور»،.. بعيداً عن غوغائية وتفلّت الشارع.

صلاح سلام – اللواء

لمشاركة الرابط: