بادرني ممانع متحمّس لحزب الله، بجملة بدأت بكلمة؛ مبروك ويعني سقوط نظام الأسدين، ولما رددت عليه بالجواب التقليدي ليبارك لله فيك، أضاف لقد انتصرتم علينا فهل سترأفون بنا؟!!
أجبته بهدوء وابتسامة، نعم تبيّن ان ما كنا نقوله ولا تسمعوه، وما كنا نشرحه ولا تنصتوا إليه، تبيّن انه حقيقة واقعية خلافا لمزاعمكم وأوهامكم وعنترياتكم الجوفاء، نعم النتيجة التي أكدتها الوقائع اننا كنا على حق ودراية وتبصّر، وكنتم تعيشون في الأوهام والخرافات وتعممون النفاق والبهورات الفارغة…
لكننا لم ننتصر، بل من انتصر في لبنان هو عدوّنا وعدوّكم إسرائيل، رغم ان من صنع هذه الهزيمة وتسبّب بها هو محور ممانعتكم! الذي كلّفكم بإعلان الانتصار نفاقا، من فوق مقابر قياداتكم وأنقاض المنازل في القرى والمدن المدمّرة، ولحظة إعلان اتفاق لوقف النار، شكّل عقد استسلام وإذعان لإرادة إسرائيل وشروطها، ومن وقّعه وقبل به هو إيران وبري وحزب لله، وعليكم وحدكم تحمّل مسؤولية تواقيعكم والالتزام تحت الرقابة الأميركية بتنفيذ القرارات الدولية الخاصة بلبنان.
على الرغم من ذلك، فان هذه الهزيمة نتشاركها معا؛ نحن مكرهين جُررنا عنوة إليها، وأنتم متعجلين مسرعين بادرتم الى استدراجها وتحقيقها نتيجة حماقتكم وغروركم وارتهانكم لإيران…
وإيران التي دفعتكم الى الحرب التي لم تكن قطعا، لمساندة غزة، بل لتسخين خطوط تواصلها مع أميركا، من أجل التوصل لصفقة مصالحة معها، تلتزم إيران من خلالها، بسلمية برنامجها النووي وضبط ولجم أذرعتها في دول الإقليم، مقابل رفع العقوبات الغربية والأميركية عنها، وتمكين السيد الخامنئي من توريث السلطة لابنه مجتبى، بعد جعل ولاية الفقيه مجلسا جماعيا بقيادته، وليس فردا واحدا، وهي صيغة يسمح دستور الجمهورية الإسلامية باعتمادها.
ولذلك كانت أولوية إيران خلال الحرب التي جررتم لبنان لها، ليس انتصاركم أو حتى صمودكم، بل عدم تفاقم الحرب ومنع توسّعها والمحافظة على علاقات جيدة بين طهران وواشنطن.
أما عن الرأفة بكم فلا تجزعوا، فسنكون أكثر رأفة بكم من إيران، التي استعملتكم حطبا أشعلت بها مواقدها، وتخلّت عنكم رمادا وجثثا تحت الأنقاض، فأخلاقنا وقِيَمنا مختلفة عن أخلاقكم وقِيَمكم، لسنا من جماعة البطش الدموي الذي مارستموه، ولا نقدّم الحلوى احتفالا بنجاح عمليات اغتيال أخصامنا السياسيين، وان كنا نفرح بإسقاط الطغاة وعتاة الاستبداد، ونحتفل بإنبلاج فجر للحرية، ونرقص طربا لمستقبل نبنيه معا…
والمستقبل هذا سيكون ممكنا، بعد أن تعودوا الى صوابكم وتعتذروا عن خطاياكم، وتتخلصوا من أوهامكم وتشفوا تماما من حالات الهذيان الاقلوي، الذي يتأرجح بشكل مرضي بين غرور الاستعلاء وذعر الخائف المعزول.
فأخلاقنا هي أخلاق الأمّة التي لا تنكر أبنائها الضالين بعد توبتهم، وقد تعتني بهم وترعاهم بعد لجوئهم لها تائبين. وقِيَمنا هي قِيَم شعب لبنان التي احتضنكم يوم كنتم نازحين ومهجرين…
أما التوبة المطلوبة منكم فهو الاعتراف بانكم دافعتم عن جرائم الأسد واستبداده وأنتم بغاية الإدراك لوحشيته وطغيانه، وانكم كنتم على علم بأنه لا حدود لشرور آل الأسد وفظائع حكمهم…
اعتدل صديقي الممانع وكأنه استردّ قدرته على المواجهة، فاستحضر ذريعته التاريخية، فقال؛ ها هي إسرائيل تتقدم في جنوب سورية فماذا فعلت المعارضة السورية في مواجهتها؟!
والسؤال هذا يستبطن إمعانا فجّا في ممارسة النفاق والكذب، فكأَنَّ الأسد كان خلال السنوات العشر الماضية يشتبك مع إسرائيل ويردّ على هجماتها ويمنعها من قصف مطاراته ومخازن أسلحته ومراكز أبحاثه العلمية وبطاريات دفاعه الجوية، وكأن مقولة الاحتفاظ بالرد المناسب والوقت المناسب ليست اختراعا أسديا، دأب على ترداده النظام السوري، بعد آلاف الغارات الإسرائيلية على كل مناطق سورية!!. وكأن صديقي الممانع يريد أن يستنتج ان بقاء الأسد كان كافيا لمنع إسرائيل من الهجوم على سورية؟!!
ثمة سردية مضللة وخبيثة مستجدّة، يتبنّاها الممانعون هو تحميل المعارضة السورية المسلحة، التي أسقطت نظام الأسدين، مسؤولية قيام إسرائيل بحملة غارات واسعة، أدّت الى تدمير القدرات والمعدات والأسلحة والطائرات التي كانت في عهدة النظام السوري، والحقيقة ان إسرائيل كانت تثق ان الأسلحة بأيدي الأسد لا تشكّل خطرا عليها، لثقتها بنظامه منذ عهد أبيه، وعندما ظهر انها ستؤول الى أيادي المعارضة السورية، التي لا تأمن جانبها قامت بتدميرها.
السردية الخبيثة الثانية هي التشكيك في مستقبل التغيير في سورية، والتركيز على الهوية الإسلامية لقوى المعارضة، والتساؤل عن مخاطر قيام حكم تديره قوى الإسلام السياسي في سورية، كما تطرح الكثير من التحدّيات التي قد تتيح إعادة تقسيم سورية أو جعلها كيانات فدرالية، إضافة الى مصاعب إعادة الإعمار وتحقيق نهوض اقتصادي مستدام.
ومهما تكن المخاطر والتحدّيات التي تواجه الحكم الجديد في سورية جدّية ومتشعّبة، فان الخير قد وقع، لانه لا يوجد نظام سياسي في العالم، يمكن أن يكون اسوأ من نظام الأسدين.
فهذا النظام مارس البطش الدموي وارتكب المجازر على مدى 60 سنة في سورية ولبنان وفلسطين، وقام بتسييد حكم الأنذال اينما وصل وتمكّن، وتحرّك دوما من خلال أحقاده الكريهة تجاه كل ما هو أخلاقي ونظيف ونبيل، وحكم بالحديد والنار، بالقتل والاغتيال، بالسجون والتعذيب حتى الموت، بالتهجير والتطهير العرقي والإجلاء الجماعي، وبنى نموذجا متكاملا من فرض الخوة، التي كانت تستوفى عاموديا من الرقيب حتى الرئيس، وأمعن بممارسة النهب البدوي والتشبيح واقتطاع الخوات المالية حيث حلّ أو وصل نفوذه، في سورية ولبنان وفلسطين والعراق، وتمكّن أن يبتز دول الخليج العربية ويقتطع منها خوة جارية، وعلى مدى سنوات طويلة…
لم يمارس آل الأسد الفساد للتربّح من السلطة فقط بل عمّموا الإفساد وسعوا الى إنتاج وتفقيص بؤر الفساد حيث وصلوا.
لم يهتكوا الأعراض وكرامات الناس والأشراف فقط، بل جعلوا من السفالة والانحطاط وتسفيه القِيَم العليا، سياسة معلنة وثقافة مسيطرة.
على مدى ستين عاما اعتمد نظام الأسدين استراتيجية زعزعة استقرار دول الجوار كأداة ابتزاز لإدامة حكمه وتسلّطه، وكان الطرف الثالث في كل حرب أهلية أو أزمة نشبت في لبنان أو تركيا أو فلسطين أو العراق أو الأردن أو البحرين.
لقد جعلوا من المخبرين وممتهني الوشايات، وتلفيق الأخبار وجلّادي السجون، مفاتيح نفوذ، ووجهاء في تركيبة سلطاتهم، ومن المهرّبين للممنوعات على الحدود وتجار الشنطة رجال أعمال وتجارة وأصحاب شركات ومصارف، ومن القوادين والمومسات أصحاب نفوذ ومعابر حلول للأزمات…
لم يقتصر خراب نظام الأسدين على حريات الإنسان وحقوقه الأساسية، ولا على مصائر الأجيال العربية وتطلّعاتها ولا على تدمير الاقتصاد ونهب الموارد في سورية ودول الجوار، بل وصل الخراب الى ميدان الثقافة والفكر والإعلام، فاستنسخ وهجّن نخبا ثقافية وكتّابا وأبواقا وأصحاب مدونات، تم انتزاع ضمائرهم وتعطيلها لتدافع عن آل الأسد وتتستّر على فظائعهم، وتطلق الاتهامات وأراجيف الافتراء والتشكيك والتخوين في كل حين، ضد كل من يصفهم بحقيقتهم أو ينتقد مسلكياتهم، أو يكشف انه كان دأبهم الغدر والنفاق والتآمر وخيانة المبادئ والتفريط بقضايا الشعوب ومصالحها، خدمة لمصالحهم الضيقة ونزواتهم الحقيرة وصغائرهم التافهة…
أما اليوم فمن المضحك المبكي أن يستذكر بعض هذه الأبواق خيانات الأسد وارتهاناته، بعد أن أمضى سنين طويلة يدافع عنه ويدبّج خطب الإشادة بصفاته ومزاياه، فهذه الأبواق كانت تعلم الحقائق وتنكرها، وكانت على دراية بالجرائم وتتستّر عليها، وكانت تنحاز للجلّاد والطاغية، في مواجهة ضحاياه الأبرياء.
اليوم يتنفّس المشرق العربي الصعداء فقد انزاح عن صدره لعنة وكارثة دامت ستين سنة!!
وحسبنا قهرا وجبرا، أن تبقى سورية الأسد الى الأبد، لكن أحرار سورية استعادوها لتحيا أجيالهم ومعهم أحيا بعد الأبد.
حارث سليمان – اللواء