يوم الخميس الماضي في 11 كانون الثاني انعقدت الجلسة الأولى لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، حيث قدم الفريق القانوني لجنوب افريقيا مرافعة قانونية موثقة بدقة فوق عادية اختصر فيها خلال 100 دقيقة كل أوجه عمليات الإبادة الجماعية التي شاهدناها على مدى 100 يوم في غزة، واظهر القدرة على التمييز بين الحق المطلق والباطل بعد 100 عام من تغليب الإستثناءات على القواعد في فلسطين المحتلة ومجتمعات الجوار، واستطاع الفريق القانوني لجنوب افريقيا أن يعيد الى الأذهان تلك اللحظات الفارقة في تاريخ البشرية التي جسدها الزعيم نلسون مانديلا الذي خرج من السجن بعد خمسة وعشرين عاما ليجعل من الحق قوة قاهرة هزمت العنصرية وعمليات الإبادة الجماعية بالتسامح والمودة واحترام حقوق الانسان.
الفريق القانوني لجنوب إفريقيا حاول في الجلسة استعادة الثقة بالنظام العالمي وبميثاق الأمم المتحدة والإتفاقات الدولية من خلال إظهار الوقائع المؤلمة في غزة وربطها بأدق التفاصيل القانونية في الاتفاقيات الدولية وأسبابها والتي أجازت لمحكمة العدل الدولية محاكمة الدول في حال ارتكابها عمليات إبادة جماعية، حيث تتهم جنوب افريقيا إحدى ضحايا الإبادة الجماعية بالمثول كمتهمة بعمليات إبادة جماعية أمام محكمة العدل الدولية وذلك بعد أن بالغت الدول الكبرى بالتغاضي عن الإستثناءات على حساب القواعد على مدى 75 عاماً في فلسطين مما جعل من الامم المتحدة تحترف إدارة النزاعات بدل منع وقوعها وتحقيق والامن والسلم الدوليين.
الفريق القانوني لجنوب افريقيا استند في ادعائه على إنسانية الذكاء الصناعي الذي لا يعرف التمييز العنصري وذلك في مواجهة حماقة الذكاء الإنساني العنصري والذي لا يزال يعتقد بان جرائمه الخفية هي احدى اسرار قوته، في حين ان الذكاء الصناعي اباح المعرفة للبشرية جمعاء واصبحت كل التفاصيل في الضوء وانتهى زمن الغرف السوداء حيث مارست الدول العظمى الكذب على الشعوب الطيبة، وخصوصا فلسطين التي لا تزال تدفع ثمن كذب الاقوياء على مدى 75 عاما، والمضحك المبكي الان هو ان تلك الدول تحاول الان ان تكون صادقة ولكن لا احد يصدقها نتيجة تاريخها الطويل مع الكذب والادعاء، وهذا ما يجعل من محكمة العدل الدولية المنعقدة في لاهاي بارقة أمل باستعادة الثقة بالنظام العالمي ومنظوماته واتفاقاته وميثاقه ومحكمته.
القاضي نواف سلام يجلس على منصة القضاة، مما يرمز الى حضور لبنان في ساحة شجاعة وحكمة جنوب افريقيا والبرازيل وآخرين، والقاضي نواف سلام الذي كنت قد عرفته عن بعد بفترات متقطعة عبر العديد من الاصدقاء وبعضهم فارقوا الحياة وهم اصدقاء وآخرون احياء وليسوا اصدقاء على قاعدة المؤقت الدائم في لبنان ولكنني أتابعه عن بعد من خلال الأصدقاء صلاح سلام ورمزي الحافظ، والقاضي نواف سلام يعرف بأن لبنان كيف حمل لبنان القضية الفلسطينية الى الأمم المتحدة قبل خمسين عاما في عام 1974، يوم رفع ياسر عرفات غصن الزيتون ليعلن أنه على استعداد لإقامة دولة فلسطينية على أي شبر من أرض فلسطين، والقاضي نواف سلام يعرف جيدا ما هي الأثمان التي دفعها كل لبنان من أجل الحق الفلسطيني بأرضه ودولته، وإنني على يقين بأن القاضي نواف سلام سيعرف كيف يميز بين أصحاب الحق المطلق وأصحاب الحقائق الوهمية والاستثناءات العنصرية والإبادة الجماعية في غزة.
أحمد الغز – ” اللواء”