لا تحتاج كثيراً من الوقت لمعرفة حال سكان الدار ، فبمجرد أن يقع بصرك على حبل الغسيل المتّشح بالثياب السود على تلك الشرفة القديمة ، فهذا يكفي لمعرفة بقية التفاصيل الموجعة ، القابعة داخل المنزل البسيط الأثاث .
هي ليست القصة الوحيدة لحكاية لاجئة سورية تركت موطنها هرباً من الموت والدمار ، إلا أنها ربما الأقسى والأوجع رغم أنها تشبه كثيراً من مثيلاتها من قصص التهجير والتشرد من الوطن في مكان آخر في لبنان أو خارجه .
من حبل الغسيل المتشح بزي النسوة الأسود تبرز حكاية أم حزينة فقدت ثلاثة شبان في عمر الورد ، دفن أحدهم في غيابها ، وآخرين انقطعت أخبارهما عنها فلا تعرف عنهما أي خبر ، ولكن لمجرد أنك تعرف أنهما اختفيا في “قبضة النظام” فقد تتوقع الكثير من النهايات الموجعة والمفجعة .
أم محمد التي فقدت زوجها قبل فلذات أكبادها ، تعيش في ظل جبل حرمون في بلدة شبعا الحدودية ، هاربة من الموت المحتم من بلدتها بيت جن المقابلة جغرافياً لبلدة شبعا اللبنانية ويفصل بينهما جبل الشيخ الذي يوزع ينابيعه بعدل وبسخاء بين البلدتين .
الحكاية لم تنته مع “أم محمد” التي تحافظ برموش العيون على ولدها الوحيد الذي بقي لها على قيد الحياة ، تجلسه بقربها فلا يغيب لبرهة واحدة عن ناظريها ، على المقعد الذي جمعنا ، الى يمينها شقيقتها الأصغر سناً وهما شقيقتان لشهيد شاب ، والأخيرة أم لأربعة أبناء كبيرهم في الرابعة عشرة من عمره ، فقدت زوجها هي أيضاَ ،تمضي وقتها في العمل من أجل تأمين لقمة العيش وكلفة تعليم أولادها الأربعة الذين يتابعون دراستهم في بلدة شبعا.
تعيش النسوة المتشحات بالسواد مع أقاربهنًً في منزل أثري يحمل الكثير من حكايا التاريخ في بلدة شبعا ، سواء في قناطره الحجرية أو في سيرة أصحابه من وجهاء البلدة منذ عشرات السنين ، ما يضفي على الحكاية بعض التفاصيل التي تستحق أن تروى وتعرف .
تدخل البيت ضيفاً فتستقبل بالترحاب وبكرم الضيافة ، وتحمل بالهدايا لدى خروجك ، تنظر الى طبق الضيافة فإذا هو يحمل شعار جهة مساعدة ومانحة عملت “نحو إنسانية بلا حدود” من أجل هؤلاء اللاجئين ، ورغم كل ذلك تخرج من البيت الذي يعيش أهله عيشة الكفاف محملاً بالهدايا ومما تيسر ، تعبيراً عن عزة نفس رغم كل الظروف المؤلمة المحيطة بساكنيه ، ورغم اللون الأسود الذي يغلب على الجو والمحيط .
ترتشف القهوة من يد الأمهات الثكالى المرتجفة من غدر الزمان فتجد في نظراتهن ألف سؤال وسؤال ، خصوصاً عند معرفتهن بأن الزائر من أهل الصحافة والإعلام ، وحتى من دون أن يلفظن حرفاً فلسان الحال يقول برعب واضح على الوجوه : ” ترى هل سيرحلوننا الى المجهول”؟
قبل أن تغادر المكان ، تلتفت جانباً ليقع بصرك مجدداً على حبل الغسيل المتشح بالأسود ، فتضرع الى رب العالمين أن ينصف النسوة الصابرات المتألمات ، اللواتي فقدن الشعور بالإنتماء الى وطن ، من جور الجريمة وقسوة الزمن ، في وقت تتغلغل فيه بين البيوت والمخيمات الأخرى البعيدة والموزعة على كافة الأراضي اللبنانية حكايات مشابهة ، وأخرى وبكل أسف لا تعود على هؤلاء الا بالضرر والمشقة والوجع .
تغادر المكان مع شعور بالحزن والأسى يشدك للعودة اليه مجدداً في محاولة ولو بسيطة لرفع الضيم والظلم والحاجة ما أمكن عن الأرامل والثكالى اللواتي يدفعن ثمن الحرب من دمهن ودم أبنائهن ، فالعودة محفوفة بالمخاطر ، والتنكيل بالعائدين لم يعد سراً ، والبقاء خارج الوطن فيه الكثير من الصعاب
فكما يحمل «حبل الغسيل» الملابس، فإنه يحمل أيضاً الكثير من الأسرار والحكايات.
شو بخبرك عن بيت من لبنان !
يقول الفنان وديع الصافي في رائعة من أجمل أغانيه ” بيتي ما برضى يسيب بيتي أنا سلاحو .. ما بتركو للديب ولا بعير مفتاحو” من المؤسف القول أن بيوت العديد من اللبنانيين اليوم “تركت للديب” وضاعت مفاتيحها … وما أدراك ماذا فعل بها ” الديب” ؟ يعرف البيت اللبناني الأصيل ليس من حجارته المقصوبة فحسب
Read More