يومَ عُدتُ إلى مزارع شبعا عسكرياً..

هكذا وبعد مرور كل هذه الأعوام لم أتوقع أن يحتفظ والدي بذكرى عزيزة على قلبه تصلح لتدرج تحت مسمى “في مثل هذا اليوم” كما أخبرني اليوم فهو الذي لا يعرف تاريخ ميلاده بدقة ، نظراً لصعوبة الأمر وتسجيل المواليد في الثلاثينيات من القرن الماضي ، ما خلته يوماً ما يحتفل لمناسبة كما رأيته هذا الصباح .كانت الإبتسامة ترتسم على شفتيه والحنين يسبق نبرة صوته الفرح ، وفنجان القهوة بين أصابعه يرتشفه بلذة عجيبة !
وعلى لسانه رواية أحب أن يشاركني بها في صبحيتنا اليومية ، أما المناسبة فكانت “في مثل هذا اليوم 16 كانون الأول من عام 1949 قرأت قبولي في السلك العسكري في مؤسسة الجيش اللبناني” .
بالنسبة الى والدي كانت مناسبة قد تفوق في الأهمية ، مناسبة تاريخ ميلاده الذي يجهله خصوصاً لجهة اليوم والشهر ، فكأني به يحتفل بتاريخ مولده في هذا اليوم ، قالها لي بفرح ” في مثل هذا اليوم صرت عسكرياً في الجيش اللبناني” .
وهنا بدأت الحكاية التي قصها على مسامعنا ولأول مرة ، هذه المرة لم يكن يروي الحكاية للطفلة التي ستخلد للنوم بعد قليل ، كان يرويها لكاتبة أبت الاّ أن تخلدها ذكرى على أوراق السنين كي لايطويها النسيان .
“في مثل هذا اليوم من عام 1949 نزلت بصحبة بعض الرفاق من أبناء بلدتنا شبعا للإلتحاق بالمؤسسة العسكرية قادمين من جرود جبل الشيخ ومزارع شبعا الواقعة حالياً تحت الإحتلال الإسرائيلي ، وتحديداً من مزرعة بسطرة حيث كانت مقر إقامتنا مع الأهل الذين كانوا يعملون في الأرض من شروق الشمس الى غروبها ، وعلى مدار العام تقريباً ولا يحبسهم في البيوت الحجرية الصغيرة إلا ثلج كوانين “.
ويتابع بفرح ” وبعد سفر شاق ومضن وصلت المجموعة الى ساحة بعبدا ، لأكتشف بأن اسمي ورد على لائحة القبول بعد خضوعنا للجنة العسكرية الفاحصة في اليوم نفسه ” قالها لي الوالد والإبتسامة تعلو وجنتيه وأضاف” عاد الشباب الذين لم يحالفهم الحظ بقبول اللجنة وبقي معي الذين قُبلوا مثلي ، والتحقنا بالمؤسسة العسكرية حتى من دون وداع الأهل وأصعدونا الى السيارات العسكرية بعد أن جاءت قرعتنا للخدمة في شمال لبنان ” .
ويتابع ” أما الرفاق الذين عادوا خائبين ولم يحالفهم الحظ ، فقد حملّتهم سلامي وأشواقي الى أمي وإخوتي في المزارع ، وابتسمت أنا ورفاقي لعدسة مصور من جيراننا أهل حاصبيا في ساحة بعبدا ، طلب التقاط صورة لنا بكاميرا خشبية حينها ، بعد أن سكب سائلاً داخلها ودوّن أسماءنا نحن الفائزين على ورقة ، ربما بطلب من قيادة الجيش ، وبعدها توجهت ولأول مرة الى شمال لبنان بالآلية العسكرية لأبقى هناك ثلاثة أشهر متتالية وليسمح لي بعدها ب”مأذونية ال 24 ساعة” كنت وحيداً بين المجموعة الذي سيعود في هذه ال 24 ساعة من أقصى شمال لبنان الى أقصى جنوبه الشرقي ، وتحديداً الى مزارع شبعا المحتلة اليوم ، وكانت المسافة شاقة وتنقلت بين عدة سيارات مروراً بالعاصمة بيروت التي لم أرها يوماً في حياتي ، وصولاً الى بلدة مرجعيون ، وهناك تركني رفيق الدرب الوحيد الذي كان معي لأنه من مرجعيون ، وبقيت بمفردي فإشتريت سلة ليمون حملتها على كتفي لساعات عديدة متوجهاً من جديدة مرجعيون الى بلدة الميرة ، ومن الميرة الى المجيدية ، ومنها صعوداً نحو مزارع شبعا في طريق صخرية وعرة ، فما صادفت سيارة تقلني ولا حتى دابة الى مزرعة بسطرة .
ويتابع بصوت خافت ” ولطرد التعب والخوف من نفسي بعد غروب الشمس وتسرب خيوط الليل ، صرت أغني “العتابا” وبعد ساعات من المشي سمع صوتي أحد أبناء المزرعة فتقدم مني وعرفني ووقف مبهوراً بالزي العسكري الذي أرتديه وحمل مني أغراضي ووضعها على ظهر الدابة ، ودخلت مزارع شبعا على ظهر الدابة ، وكنت بذلك من أوائل أفراد الجيش اللبناني الذين زاروا تلك الأرض ولكن الوقت كان ضيقاً ، فأمضيت سواد الليل عند أهلي في مزرعة بسطرة ، وودعت والدتي وعدت الى المجيدية لأصادف سيارة شحن ضخمة ، فحالفني الحظ مرة جديدة لتقلني الشاحنة من المجيدية الى مرجعيون ، وفي ساحة البلدة وجدت السائق الذي أقلني من طرابلس في اليوم السابق ، بإنتظاري للذهاب الى الشمال ، وأعود في “مأذونية” لاحقة الى شبعا ونترك المزارع ، لأن العدو الصهيوني كان قد احتلها ، لنخسر أرضنا الزراعية منذ ذلك العام وحتى هذه اللحظة التي أروي لكم فيها هذه القصة ” (يتبع)
إكرام صعب
[email protected]

لمشاركة الرابط: