ماء الكلام “واعتصموا” (5)

أعيان المعاني
أورد أنور الجندي في مؤلَّفه الفصحى في لغة القرآن ص 306، تعبيرًا للمستشرق النمسوي غوستاف غرونباوم (Gustav Edmund Grunebaum) للدلالة على أهمّية اللغة العربية وبيانها: “… وقد قال الخفاجي عن أبي داود المطران – وهو عارف باللغتين العربية والسريانية – أنه إذا نقل الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبُحت وخسّت، وإذا نقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوةً وحسنًا، وإن الفارابي على حقّ حين يبرّر مدحه العربية بأنها من كلام أهل الجنّة، وهو المنزّه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلّى من كل خسيسة، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا”.
لقد جاء في القرآن الكريم ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: 103)، وجاء أيضًا ﴿لا عاصم اليوم من أمر الله﴾ (هود: 43). فالعصْم يعني التحصّن. وهو بالضرورة الالتجاء والتمسك برباط شديد. فالمقصود بـ “اعتصموا” تمسّكوا وتحصّنوا برباط قوي كي لا تقعوا في المعاصي، وهو بالتالي المنع. أما معنى “لا عاصم” فهو لا مانع ولا منجٍ ولا مخلّص… من هنا كان استعمال الاشتقاق من الجذر “ع ص م”.
فحين يحصل تجمّع لأشخاص في مكان ما يُطلَق عليه “اعتصام” ووزن هذه الكلمة “افتعال” ويفيد المطاوعة، أي التنفيذ كقولنا مثلًا جمعته فاجتمع أي طاوعني ونفّذ. والاعتصام عادة هو تنفيذ لطلب من شخص أو مجموعة ما للمطالبة بحقوق أو لرفع ظلم… إذًا، في الاعتصام يشدّ الناس أزر بعضهم بعضًا ويتحصّن بعضهم ببعض ويحتمي به كأنّما بينهم رباط يجمعهم معًا.
ومثل هذا أيضًا العاصمة التي هي قاعدة كل بلد وكل قِطر، وتُعتبَر أفضل الأماكن للسكن لتنوعها الفكري والثقافي ولكثرة فرص العمل فيها… فهي تعصم الناس أي تكون لهم الملجأ وتربطهم بها. وكذا العصامي والعصمة والمعصم، فالأولى تُطلَق على الشخص الذي يعتمد على نفسه في بناء مستقبله ويعتصم بها ويمتنع عن طلب المساعدة من الغير. أما الثانية فتُطلَق على عقد ما كعقد الزواج الذي يعصم الزوجين من ارتكاب الإثم. أما الثالثة فيقصد بها رسغ اليد الذي يمنع السوار أو الساعة من الانزلاق والسقوط.
لذا، فلنعتصم بلغتنا كي لا نسقط!

الوليد
وليد الخطيب كاتب لبناني

لمشاركة الرابط: