عندما كانت إسرائيل تحتفل بدونالد ترامب، وقف رئيس المعارضة الإسرائيلية في البرلمان الإسرائيلي يائير لابيد مشاركاً ومفاخراً قائلاً: “إن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في المنطقة…”
اللبنانيون الذين كانوا يستمعون إلى ذلك الخطاب استاءوا وغضبوا. كيف يفاخر هذا المسؤول بديمقراطية بلاده وهي لم تقم إلا على الانتماء اليهودي. دولة عنصرية معروف كيف نشأت ولماذا نشأت. والكيانات العنصرية أبعد ما يكون عن الديمقراطية ماضياً وحاضراً.
فإذا كانت تلك الدولة العنصرية والمحاربة وجرائمها هزّت ضمائر العالم كله في حرب غزة هي ديمقراطية، فماذا تركت للآخرين. ولكن من هم الآخرون في هذا الشرق من دعاة الديمقراطية؟
كنا حتى الآن، ومنذ البدء، نفاخر بأن لبنان هو الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. إنه بلد التنوع أو التعدد وفق اختلاف مفاهيم البعض. إنه نشأ مع الحرية وبفضلها منذ قرون، وتكرّس هذا الكيان المميز منذ مئة عام ونيف. وبسبب هذا التكوين ومضمون الحريات فيه وأولها حرية المعتقد ورحابة التعامل مع الآخرين، أياً كانوا، فتح أبوابه للقادمين للاصطياف والاستشفاء والتحصيل العلمي، ثم لجميع حاملي السلاح وأصحاب المصالح الإقليمية والدولية. والسنوات الاستقلالية وحتى اليوم معروفة، وقد كانت المحتوى الدائم لهذه الصفحات.
وصفه شارل ديغول قائلاً Ce peuple doux et hospitalier ما معناه أنه شعبٌ هانئ ومضياف. هكذا كان وهكذا نشأ. ولكن أين أصبح اليوم؟
مهلاً قليلاً: إسرائيل فيها كل مواصفات الإجرام منذ أخذت مكان فلسطين، وفق القرار الدولي ١٨١ تاريخ ٢٩ تشرين الثاني ١٩٤٧ من الجمعية العامة. إنها نشأت ككيانٍ بذلك القرار، وبعد ذلك لم تحترم غيرهم. أما الحركة الصهيونية التي أوصلت إلى قرار التقسيم فشأنها آخر. ولكنها دولة. وهي اليوم تحاكم رئيس حكومتها نتانياهو بتهمة الفساد، أو أنها استأنفت محاكمته عندما انتهت حرب غزة مبدئياً ورجع الرهائن. فأعاد القضاء فيها استدعاء رئيس الحكومة إلى المحكمة التي جعل مكانها بطابقين تحت الأرض بتل أبيب للحماية. وذلك بتهمة قبض رشاوى من رجل أعمالٍ اسمه آمون ميلشان، بينها مجوهرات بقيمة ١٨٠٠٠٠ يورو بالإضافة كما ذكر قرار الاتهام إلى الشمبانيا وعلب السيجار… ولم ينسَ دونالد ترامب أثناء خطابه في مجلس النواب الإسرائيلي، أن يخرج عن النص مطالباً الرئيس الإسرائيلي الذي كان حاضراً، بأن يصدر عفواً عن صديقه نتانياهو.
من المعيب من جهتنا كلبنانيين أن نقارن أنفسنا بإسرائيل من مختلف النواحي. لأن لبنان تجربة فريدة في العالم كله، وهو نقيض إسرائيل تماماً، كما نبّه إلى ذلك المفكرون الأوائل للتجربة اللبنانية أمثال ميشال شيحا وشارل مالك، دون أن ننسى الرئيس الاستقلالي الأول بشارة الخوري الذي خاطب فلسطين قبل فترة قصيرة من وفاته عام ١٩٦٤ قائلاً: “فلسطين يا غائبة الشمسين، شغل الماضي ومرارة الحاضر، ما مررت بخاطر عربي علا شأنه إلا وقرع الصدر ندماً على ما فات، فلا فيكِ عزاء ولا عنك استغناء…”
لقد تنبّه الجميع إلى ذلك. ولم يبقَ أي كاتب أو مفكر أو صاحب قضية إلا ما قارن بين لبنان المتنوع والرحب والمضياف، وإسرائيل المنغلقة على عنصريتها وعدائها للجميع.
ولكنها دولة.
ولبنان الذي يسعى اليوم لأن يجد له مكاناً في هذا الشرق المتحول، لم ينجح في إقامة دولة. إذ أن أبوابه المشرعة سمحت للجميع بالعبث فيه. في وحدته وتجربته مما جعله ساحة وهو موضوع نظرة العالم إلينا، من العرب إلى الأوروبيين إلى الأميركيين: اضبطوا مؤسـساتكم. حاسبوا فاسديكم. قوموا بالإصلاحات حتى نحضر إلى جانبكم. هذه هي قضيتنا اليوم: قضية سلطة الدولة والقيام بالإصلاح، عبر المحاسبة. على غرار ما فعلته فرنسا مع نقولا ساركوزي الذي أُبلغ أنه سيدخل السجن هذا اليوم بالذات في ٢١ الشهر.
والمقارنة مؤلمة لأن إسرائيل جارة لبنان الجنوبية. وكانت سوريا بأنظمتها المتنوعة ولا تزال جارته الشرقية والشمالية. فالجغرافيا لا تتغير وإن كان دونالد ترامب يحاول تغيير التاريخ.
دونالد ترامب هو رجلٌ كما يقال بالعامية اللبنانية “لا تسعه الدنيا” أو “الدنيا ما بتساعه”. ميلياردير لا يتعامل إلا مع أصحاب الملايين وآخرهم السفير اللبناني الأصل الذي سيصل بعد أيام، لأنه صديقه وصاحب ملايين. وقد شاهد العالم كله كيف أنه تعامل في شرم الشيخ مع أكثر من ثلاثين ملكاً ورئيساً كأنهم تلاميذ عنده.
منذ أيام جرى الاحتفال بذكرى السينمائي الأشهر في هوليود أورسون ويلز الذي كان أسطورة السينما في أربعينات وخمسينات القرن الماضي، كان فضله الأكبر أن أخرج فيلمه الأشهر في هوليود “Citizen Kane””المواطن كاين” وهو بعده في الخامسة والعشرين من عمره عام ١٩٤٠ ولكن موضوع فيلمه كان عن رجل اسمه كاين هو الآخر لم تسعه الدنيا. وقد كتب صحافي فرنسي منذ أيام قائلاً: لو كان أورسون ويلز حياً لكان موضوع فيلمه عن دونالد ترامب وليس أحداً سواه. هل ينجح هذا الرجل الذي يريد أن يغير العالم؟ سنرى.
فالسؤال الذي يعنينا ليس هنا. هل ننجح نحن في تغيير أنفسنا وهل ينجح من شجع العالم كله على اختيارهم في سبيل احداث تغيير، عبر المحاسبة أقله، وترك القضاء يقوم بواجباته وتحريره من السياسة الجواب هو هنا. كأول إشارة لعودة ثقة العالم بنا.
الدكتور داود الصايغ
المستشار السياسي للرئيس الشهيد رفيق الحريري







