كان ينبغي للبنان ألاّ يكون وطناً ، فقد أخطأ في ذلك مثلما أخطأ قبله العراق وفلسطين ، عشرون عاماً من عمري كانت كافية لأنّ أصدّق بأن لبنان قطعة من الجنّة سقطت سهواً في الجحيم فإستفردت بها الشياطين ، ولكنها ستعود عاجلاً أم آجلاً الى فردوسها السماويّ شاء من شاء وأبى من أبى.
لكن المسألة اليوم ليست هنا بل هي في مكان آخر ، حيث لا يزال بعضهم يمارسون الأساليب نفسها التي تجعلهم زعماء أحزاب لا رجال وطن ، وتجعلنا نحن القطيع نكتفي بكوننا “جماهير” ، ما أبشعها من لفظة عربيّة وما أفصحها في اختصار العبوديّة في أحلك مظاهرها ، نحن جماهير غوغاء ونعتزّ بذلك ، ونختبئ وراء غوغائنا لنخفي عقمنا الفكري الفادح العاجز عن إنجاب وطن سيّد حرّ مستقلّ، واجتراح قيامة وطنيّة تساهم في الإقتصاص من قتلة الوطن ، نحن جماهير غوغاء، تركض الى الهاوية دون شعور أو ذنب أو سؤال ، نتأقلم بسرعة مع الواقع المرير مروراً بفحش الأسعار وعهر الدولار والمحروقات وصولاً الى المجاعة والإستبداد ، ونجد دائماً التبريرات اللازمة للذلّ اليوميّ ، حتّى إذا سرق الجائع منّا قلنا :” فلتقطع يد السارق ليطول عمر الحاكم “.
المسألة هي هنا تماماً وليست في مكان آخر ، ثمّة بيننا من يعتبرون أنفسهم قدّيسين وأولياء على بقعة الأرض هذه التي أجزم بأنّها لا تُشبه الأوطان بشيء ، فليس لها شعبٌ مخيفٌ يسكنها كما يخيف الحقّ ، وليس فيها حرٌّ شريفٌ يحكمها كحريّة ثورة ، يعتقدون أنفسهم أحراراً مناضلين، ويعتبرون الآخرين شياطين تابعين ، ستقولون هم أحرار و سأقول بالطبع ، لكن بئس حريّة تقتل الآخر لتعيش .
ولعل ما يعزّ علّي هو أن أقول بأن هؤلاء تضربهم بارانويا الأنا ضرباً موجعاً الى درجة الإقتناع بأنّهم أكبر من وطنهم وأصغر من أحلامهم ، هذا فضلاً عن الإقتناع بأنّهم إنّما يوزّعون شهادات في الوطنيّة على أتباعهم، في حين أن هذه الوطنية المغلّفة بالطائفية تقهقه ساخرةّ منهم ومشفقةً عليهم.
عيبٌ أن يصل بنا الإستخفاف بالوطن الى هذا الإسفاف الإخلاقي والعهر السياسيّ الذي لا قعر له ، وإذا صح أن مستقبل لبنان مسكين إذ لن يكون له تاريخ ، فالأصحّ ما قاله الراحل الكبير أنسي الحاج: ” الشعب وحده يغييّر التاريخ وهو أعزل”.
الحقّ الحقّ أقول لكم: إذا أردتم فعلاً بناء وطن فتّشوا عن الوطنيين الذين بيننا قبل ذلك ، إفتحوا الثورة على مداها علّها تفتح حرباً يحدوها الأمل ، وتغفر سلاماً مع اليأس.
سيندي أبو طايع*
إعلامية لبنانية
*الآراء الواردة في النص تعبر عن رأي كاتبها .