عبد الرزاق أفندي أبو ياسين اليتيم الذي صار ضابطاً في الجيش العثماني وقاتل الجنرال غورو في ميسلون (3من4)

خاص – nextlb
عاطف البعلبكي

المواجهة في ميسلون
قبل الأمير فيصل إنذار الجنرال غورو مرغماً حقناً للدماء ، ثم عاد ونزل عند رأي الجماهير الغاضبة بالمقاومة ، ودعا العسكر الى الثكنات إستعداداً لمواجهة هجوم الجنرال غورو الذي بدء احتلال لبنان وسوريا بإنزال عسكري على شاطىء المتوسط ثم زحف بإتجاه دمشق لإلغاء فكرة الدولة العربية من أساسها في دمشق .
وتحت قيادة القائد الجسور يوسف العظمة ، وزير الدفاع في الحكومة العربية الوليدة ، وبعديد لا يتجاوز 4000 مقاتل قاوم الضابط عبد الرزاق ورفاقه الضباط والجنود ، الغزاة الفرنسيين المهاجمين بعديد بلغ أكثر من 9000 جندي مع دبابات وطائرات ، ببسالة في معركة ميسلون التي دارت رحاها في صبيحة يوم 24 تموز يوليو من عام 1920 ، وكان قد كلف قبل أيام من قبل قيادة الجيش العربي بنسف جسر ديرزنون على نهر الليطاني بالقرب من بلدة برالياس ، وسط سهل البقاع ، لمنع تقدم آليات الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال غورو نحو دمشق بعد أن نزلت قواته على امتداد الساحل السوري آنذاك ، وكذلك كلف بتدمير جسر جب جنين لعرقلة تقدم جحافل الجيش الفرنسي التي هاجمت سهل البقاع من جهة الغرب ، وتقهقر جيش فيصل أمام الآلة العسكرية الفرنسية الضخمة من سهل البقاع بالقرب من بلدة مجدل عنجر وتراجع شرقاً بإتجاه “وادي الحرير” (نقطة الحدود اللبنانية السورية اليوم ) ، ثم تحصن في ميسلون التي تبعد حوالي 20 كلم عن دمشق ، وكانت المعركة الشهيرة التي استبسل فيها قائد الجيش العربي يوسف العظمة ، واستشهد هناك بقذيفة دبابة وقف بوجهها لمنعها من التقدم بإتجاه دمشق ،واستشهد معه أكثر من 400 شهيد ، وبقي ضريحه في ميسلون شاهداً على بطولته رحمه الله .


وكان الضابط عبد الرزاق في عداد القوة المدافعة عن مدينة دمشق في ميسلون ، وعن الحكومة العربية الوليدة ، ولم تكن المعركة متكافئة أبداُ، فأسلحة “الجيش العربي” كانت شبه بدائية ، وهي عبارة عن بنادق إنكليزية قديمة ، ثم ما لبثت الذخيرة أن نفذت من المقاومين الذين صمدوا ببسالة نادرة أمام القوة الفرنسية المهاجمة ، التي استنجدت بالطيران الحربي ليقصف المدافعين عن مدخل مدينة دمشق الغربي
وعن تلك المعركة قال المربي أبو منير رحمه الله : ” روى لنا والدي ، أن المعركة كانت شرسة جداً ، وكان الإشتباك مع الدبابات وعسكر الجيش الفرنسي من بعد عدة أمتار فقط ، واستمرت لعدة ساعات حتى نفذت الذخيرة من العناصر المدافعين ، الذين كان ينقصهم العتاد والتدريب ، ولا تنقصهم الشجاعة والشهامة في الدفاع عن الأرض ، فقد تم تشكيل جيش الأمير فيصل بسرعة ، ولم يكن قد تلقى التدريبات الكافية بعد ، ولم يكن هناك مجال للإختباء من قصف الطيران في واد ضيق كوادي ميسلون ، وتجمعت القوات المدافعة عن دمشق ضمن مجموعات صغيرة ينقصها الإمداد والذخيرة ، مما رفع عدد الخسائر في صفوفها ، ولم تسعف المدافعين سلسلة شبكة الألغام التي لم تكن فعالة ، ولم ينفجر معظمها بفعل خيانة ما عطلت شبكات الألغام .
وكان الضابط عبد الرزاق – وهو من أهل الإختصاص – قد شارك في زرع هذه الألغام في طريق الدبابات الفرنسية المهاجمة، وأكد معلوماته ما كتبه المؤرخون عن تفاصيل تلك المعركة في العديد من الروايات الموثقة التي أجمعت أن خيانة بشعة حصلت بقيام مجموعة من المأجورين بتخريب أسلاك الألغام وتعطيل تفجيرها ، فيما قامت مجموعات مشبوهة بسرقة الأسلحة والعتاد مما أدى الى هزيمة جيش الأمير فيصل وانتصار العسكر الفرنسي والتقدم نحو دمشق واحتلالها .
ويتابع الراحل أبو منير سرد القصة بهدوء وتأثر : “المهم أن والدي ( الضابط عبد الرزاق إبن ال28 عاماً حينها) نجا من المعركة الطاحنة بعد نفاذ الذخيرة وقصف الطيران الفرنسي للقوى المدافعة عن طريق دمشق عند مدخلها الغربي قرب قرية ميسلون ، وتشرد مع باقي أفراد الجيش العربي وهاموا على وجوههم في الجبال والقرى المجاورة دون زاد ولا طعام ، وحتى دون سلاح ، وتقدم جيش المحتل الفرنسي الى دمشق ، وكانت هزيمة الجيش العربي في مواجهة غطرسة الجنرال الفرنسي غورو الذي دخلها بشكل إستعراضي ، ووقف عند قبر القائد التاريخي صلاح الدين الأيوبي وخاطبه بحقد قائلاً له : ” ها قد عدنا يا صلاح الدين ” في تذكير ماكر منه بحملات الحروب الصليبية التي بدأت منذ أواخر القرن الحادي عشر حتى الثلث الأخير من القرن الثالث عشر (1096 – 1291) في مسلسل حقد لم تخبُ ناره حينها منذ أكثر من 900 عام .
من الديماس الى” لبنان الكبير”


ويجري شريط التسجيل ليضيف المربي أبو منير رحمه الله تعالى : ” لجأ والدي الى قرية الديماس القريبة من طريق بيروت دمشق ، ودخل القرية خائفاً مترقباً يسأل عن منزل يحتمي فيه ، واهتدى الى بيت مختار البلدة ، وكان متحمساً لجيش الأمير فيصل ، فخبأه في منزله ليلاً ثم أعطاه في الصباح الباكر ثياباً قديمة ، ومعولاً ومحراثاً ليعمل في أرضه ، ويختبى نهاراً في حقول الديماس عن أعين الدوريات الفرنسية التي كانت تداهم البيوت وتمشط البساتين القريبة من القرية التي لا تبعد كثيراً عن ميسلون خلال دوريات متكررة ، بحثاً عن الضباط والعسكريين الذين قاتلوا بضراوة مع الجيش العربي ، وقتلوا من العسكر الفرنسي أكثر من 42 قتيلاً وجرحوا أكثر من 150 في أرض ميسلون.
ويتابع أبو منير شريط الذكريات : “صار والدي يتظاهر بأنه يعمل في زراعة الأرض متخفياً عن أعين العسكر الفرنسي ، إلا أنه سرعان ما تسرب الخبر الى الفرنسيين ليداهم أحد الضباط مخبأه على رأس دورية ، فيتظاهر بالمرض عند وصول الدورية ، ولكن الضابط الفرنسي يكتشف بأنه يتكلم العربية بلكنة غريبة لا تتوافق مع لهجة قرية الديماس ، وفي التحقيق معه يواجهه الضابط بالتهمة المنسوبة اليه بقوله له بخبث :” أنت شريفيان ” (من جيش الشريف حسين) فينكر والدي الأمر ، وكان يتقن الفرنسية التي تعلمها في اسطنبول خلال دراسته الأولى في ظل حكم السلطان عبد الحميد في المدرسة الحربية ، لينجو حينها من الإعتقال الذي كان قد يوصله الى الإعدام “.
وكانت هذه الحادثة المخيفة مفصلاً تاريخياً في مسيرة حياة الضابط الشاب عبد الرزاق التي سيكملها بعد سنوات ، ولكن في دولة لبنان الكبير ، مواكباً لتاريخ لبنان المعاصر عسكرياً إنضباطياً في كل الحقب التاريخية التي مرت على لبنان منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى ، والدولة اللبنانية الوليدة ، من دولة لبنان الكبير حتى الحرب العالمية الثانية مروراُ بحقبة الإستقلال في عام 1943 .
[email protected]
=============================

للإطلاع على الحلقات السابقة إضغط هنا
في الحلقة الرابعة والأخيرة ، الضابط عبد الرزاق أبو ياسين في سلك الدرك اللبناني من تحت الوصاية الفرنسية ولبنان الكبير ، الى كنف الدولة اللبنانية .

لمشاركة الرابط:

Article Tags