يوم كان الظلام خيارهم ..بقلم داوود الصايغ

في ذلك اليوم من حزيران 2018 حطّت مستشارة ألمانيا أنجلا ميركل في بيروت على رأس وفدٍ اقتصادي كبير عارضةً المساعدة للبنان، وبخاصةٍ في ميدان الكهرباء كما سبق وفعلت في مصر التي أفادت من شركة “سيمنز” وبات لديها الكهرباء 24 ساعة على 24 ساعة كما يُقال ولكن مسؤولي الكهرباء عندنا يومذاك أبلغوها أنهم ليسوا بحاجة إلى المساعدة الألمانية، ولا إلى مساعدة أحد. فإذا كان الظلام هو السائد في مجال الكهرباء، فلا بأس، لأنه سائدٌ في كلّ المجالات. والأنوار، إذا عادت، فلعلها كانت تسلّط على الصفقات والجيوب والأفواه الجائعة. وعلى كلٍّ فقد عبّر عن ذلك فيما بعد أحد نواب بيروت المنتمي إلى هذا التفكير في تصريحٍ شهير التصق به عندما قال على إحدى الشاشات متحدّثًا إلى محاوره: “عمره ما يكون في كهربا، شو على أيام جدّك كان في كهربا”؟ أتذكرون؟
ويومها غادرت أنجلا ميركل التي بقيت في مركز المستشارية طوال ستة عشر عامًا، كسيدة أوروبا، وقد أدركت وهي التي انتظرت سنوات ليوافق “البوندستاغ” (مجلس النواب) على تغيير طائرة المستشارية الهرمة والتي كادت أن تتسبّب بحوادث كثيرة، أن لبنان هذا الذي ألفت اسمه من والدها القسّيس البروتستانتي في ألمانيا الشرقية التي نشأت وترعرعت فيها، ليس هو الذي ورد ذكره في الكتاب المقدّس أكثر من ثمانين مرّة، بل إنه تحوّل على أيدي بعض السياسيين والمسؤولين إلى جمعية من اللاهثين وراء مصالحهم. فغادرت شديدة الإحباط.
لم تكن تلك السنوات الأخيرة سنوات ضياع الفرص فحسب بل سنوات التفريط بسمعة لبنان. ليس ذلك بسبب الوصاية السورية فحسب، بل بسبب وصاية الفاسدين الذين تنازلوا عن السيادة مقابل ملء الجيوب، وقد ملأوها… في العتمة والظلام.
حتى الآن لم يسأل أحدٌ عن المتسبّبين بحرمان اللبنانيين من الكهرباء طوال العقود التي تحكّم بها هؤلاء الذين ما زالت أصواتهم مرتفعة. لماذا لم يُحاسَب أحدٌ منهم وبسؤالٍ أوضح: لماذا ليس في المعتقلات اللبنانية سوى شخصَين هما رياض سلامة وأمين سلام، وذلك النائب والوزير السابق التائه في العواصم هربًا من رفع الحصانة. لماذا هم وحدهم والفاسدون أكثر من أن يحصوا.
لماذا لم يبادر أحد القضاة أو أحد السياسيين كما في حال الوزير السابق أمين سلام إلى توجيه الاتّهام لأحد المسؤولين عن الكهرباء وتقديمه إلى المحاكمة. هذا هو كلّ السؤال. فالكبار لم يحضروا بعد أو أنهم لم يعبّروا عن حضورهم.
إذا كنا نستذكر موضوع الكهرباء والظلام رفيق أيامنا وليالينا لأننا نحاول التشبّه ولو بالمقارنة مع ما يجري في بلاد الآخرين. فمنذ أيام، في الأيام الأولى من أيلول، أجرى رئيس الحكومة البريطانية تعديلًا أساسيًا في حكومته بعد إجباره نائبته في الحكومة أنجلا رينر Angela Reyner على الاستقالة بسبب امتناعها عن تسديد كامل الضريبة المتوجّبة عليها بعد شرائها بيتاً في منطقة ساسيكس بقيمة ثمانمائة ألف استرليني، فبخلت بالأربعين ألف الباقية المتوجّبة عليها، فدُفعت إلى الخروج من الحكومة، واضطرّ رئيس الحكومة كير ستارمر إلى إجراء تعديلٍ أساسي في حكومته مما أضعفه على الصعيدَين الداخلي والدولي.
هذه هي بلاد المحاسبة، التي أدرك واضعوا الدساتير والأعراف فيها، أمس واليوم، أنها لن تتقدّم إلّا بالمحاسبة. وإلّا ماذا يفرّق العالم المتقدّم عن ذلك المتخلّف؟ إذ بالإضافة إلى مبدأَي فصل السلطات وتداول السلطة في الديمقراطيات، هنالك المحاسبة، وما من أحدٍ فوق القانون. فالعدالة معصوبة العينَين كما في الشعار الشهير، تُمسك بالميزان الذي ينحني تحته الجميع من دون استثناء.
وها هي وسائل الإعلام الأميركية، وعلى رأسها وال ستريت جورنال، تُلاحق دونالد ترامب لعلاقته مع المليونير جيفري أبستين، المتّهم الشهير بالدعارة والاعتداء على القاصرات وقد وُجد مُنتحرًا في سجنه عام 2019. وقدّمت الصحيفة الشهيرة وثائق جدّية عن تلك العلاقة. أما الأمير أندرو شقيق الملك شارل المتورّط مع ذلك الأميركي نفسه، فقد أُبعد رسميًا عن العائلة الملكية منذ أيام والدته الملكة اليزابيت الثانية.
الأمثلة عديدة في بلدان المحاسبة. ابتداءً من صديقتنا فرنسا التي حاكمت وتحاكم كلّ مشتبهٍ مهما علا شأنه وقد حطّم القضاء أحلام فرنسوا فيون رئيس الحكومة الأسبق في الوصول إلى الرئاسة بسبب تهمة الإفادة من مركزه النيابي، إذ أنه أقدم على توظيف زوجته بينيلوب كمساعدةٍ برلمانية له وقد تبيّن أنها لم تحضر يومًا إلى البرلمان الفرنسي. فكان أن برز من ثم اسم إيمانويل ماكرون الذي فاز بالرئاسة. والعدالة إياها ما زالت تلاحق نقولا ساركوزي، وتُلاحق اليوم الوزيرة المستقيلة رشيدة داتي لقبضها أموالًا من كارلوس غصن ولقبولها مجوهرات من رجل أعمال لم تعلن عنها.
في لبنان نحاول الانفلات أو نحاول التميّز عمّا يجري في جميع الأنظمة حولنا، التي تخضع في أنظمة الحكم فيها لمعايير أخرى، مختلفة تمامًا عن معايير ما يُعرف بدولة الحق Etat de droit في الغرب التي تُختصر بانصياع الدولة للحق أو للقانون في اللغة المتداولة. إذ ما زلنا بين ما بين. عندنا رؤساء سابقون ورؤساء حكومات سابقون والبرلمان يتجدّد والحكومات تخضع للثقة. ولكن المحاصصة ما زالت هي الغالبة والمصالح وقفت في وجه تحقيق العدالة حتى الآن. علمًا بأن لبنان الأمس في حقب ما بعد الاستقلال كانت العدالة فيه قدوة الشرق كلّه.
لماذا ليس لدينا كهرباء حتى الآن؟ لماذا نستجدي باحتياجاتنا لتوليد الكهرباء من العراق وقطر وسائر البلدان؟ من هو المسؤول أو من هم المسؤولون عن ذلك. جميع من حولنا سبقونا بأشواطٍ وسنوات، ونحن ما زلنا عاجزين عن إضاءة الكهرباء في البيوت.
إنها مرارة أولئك الذين ما زالوا متعلّقين بلبنان ذاك، لبنان الذي كان حلم العرب، فبات أضغاث هؤلاء اللبنانيين. والذي لن يعود إلى ذاته ما دامت مصالح “الطبقة” هي الغالبة.

المصدر : النهار – د. داوود الصايغ 

 

لمشاركة الرابط: