عندما يستسلم الجميع للبنان ..بقلم داود الصايغ

مشكلة حزب الله ليست في السلاح، بل في حاملي السلاح.
وحاملو السلاح من حزب الله يختلفون تمام الاختلاف عن الذين حملوا السلاح من أبناء الطوائف الأخرى خلال سنوات الحروب ما بين ١٩٧٥ و١٩٩٠. إذ حين قضى الحلّ عام ١٩٨٩ بتسليم الجميع أسلحتهم، استثنيت “المقاومة” التي دخلت من ثمّ في اتّخاذ القرار الأساسي عبر شعار “شعب وجيش ومقاومة” عسكريًا وسياسيًا.
حضر ذلك السلاح على طول الأربعين سنة الماضية. وحضرت المواجهة مع إسرائيل بقرارٍ من حزب الله. وشهد لبنان الموت والدمار واستعداء المجتمعَين العربي والدولي.
حدث ذلك بعدما أرسى الإمام السيد موسى الصدر “حركة المحرومين” في آذار ١٩٧٤ التي تحوّلت على الصعيد الشيعي مع السنوات والصراعات والحروب إلى مكوِّنٍ مسلّح له مرجعية واضحة أعلن عنها السيد حسن نصر الله بأنها الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولذلك اختلف هذا السلاح تمام الاختلاف عن أسلحة الآخرين. لأنه سلاحٌ عقائدي يُستعمل لمصالح الآخرين وليس في الصراعات الداخلية.
ذلك أن ما عُرف بـ”الثنائية الشيعية” لم يُعرف سابقًا على الصعيد اللبناني لدى أي طائفة أخرى من الطوائف الست المؤسِّسة للكيان، منذ منتصف القرن التاسع عشر. إذ انضمّت “حركة أمل” إلى حزب الله ونشأ في لبنان واقعٌ سياسيٌ واجتماعيٌ جديدٌ لم يعرفه من قبل.
وعندما توجّه الرئيس جوزاف عون في خطابه بمناسبة عيد الجيش إلى “البيئة الكريمة” التي واجهت العدوان، كان المقصود الطائفة الشيعية. إنها البيئة الحاضنة التي يصعب للعديد من أصحابها اليوم التخلّي ليس عن السلاح، بل عن المكانة التي وصل إليها المكوِّن الشيعي لبنانيًا وهي الأولى في القرار، عبر صيغةٍ جمعت من في داخل الدولة وخارجها، وصولًا إلى إيران، ليصعب على الدولة في لبنان استعادة قرارها بمعزل عن الحروب لمصالح الآخرين، كما قال رئيس الجمهورية، مستذكرين ما سبق للراحل الكبير غسّان تويني قوله الشهير “حروب الآخرين على أرض لبنان” وذلك قبل أن يتحقّق توصيفه تمامًا بمدّ اليد الإيرانية بصورةٍ سافرة على لبنان.
الصعوبة الأولى هي في تلك البيئة الحاضنة، في كيفية إعادتها إلى الشراكة الوطنية الأساسية، إلى ذلك الوفاق الذي ارتقى إلى المرتبة الدستورية عام ١٩٨٩ في اتّفاق الطائف وإلى تلك المقدّمة المكتوبة بحبر التاريخ والدماء والصراعات والتدخّلات “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه”. ما ترجمته ليس هنالك في لبنان من هو مع الآخرين في أي اتّجاه كان شرقًا أو غربًا. ليس هنالك مكان للعواصم في العاصمة الأولى، بوابة الشرق، وست الدنيا كما قال نزار قبّاني. ليس هنالك منافس لبيروت في الولاء. إنها حاضنة الجميع، وبرلمانها في وسطها هو صاحب الكلمة الفصل.
وما هو خارج المؤسّـسات لعلّه أهمّ مما هو في داخلها. إذ لم يحدث في التاريخ القديم أو الحديث أن استقوت طائفة على الآخرين. ليس في لبنان أكثرية طائفية أو أكثرية مناطقية. إذ لا يمكن للكيان أن يتسمرّ ويستكين إذا استقوت طائفة من الطوائف على الآخرين. لبنان نشأ بالميثاق وتكرّس بالوفاق. ليس في الإدارة والقضاء والجيش ولاءَات لغير الدولة ولغير لبنان، أو هكذا يُفترض أن يكون. المواطن الجنوبي الشيعي هو مثل المواطن الشمالي الإهديني تمامًا. رحم الله المطران غريغوار حدّاد الذي نظّم بعد انتهاء الحروب مخيمات تجمع بين شباب الجنوب وشباب الشمال ليتعرّف بعضهم على الآخر. وما دام الحديث عن الطوائف فإن هذا المطران الذي ينتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك لعلّه أدّى بعض مهمّة هذه الطائفة في الجمع وفي إنارة الطريق أمام الآخرين.
الآن نحن بحاجة إلى ذلك المخيم الواسع الذي يضمّ الجميع، والمخيم هو الدولة. أنت أيها القاضي إلى أي طائفة أو منطقة انتميت مرجعك مجلس القضاء. وأنت أيها الضابط، أيها الجندي تحديدًا مرجعك قيادة الجيش وليس أي قيادة أخرى.
سبق للدولة أن حضرت. لعل البعض لم يسمعوا بظاهرة “قهوة القزاز” وهو مقهى شعبي كان يقوم في وسط ساحة الشهداء. إذ في حقبة الخمسينات-الستينات، حسبما يروي الذين عايشوه، عندما كان شرطي يفتح باب المقهى للدخول كان أول ما يسمعه هو أصوات السكاكين المتساقطة من جيوب بعض الرواد إلى الأرض تهيبًا من سطوة الشرطي. السكاكين وليس المسدّسات. إنه كان شرطيًا فقط وليس ضابط جيش أو عنصر مخابرات. ومع ذلك كان يمثّل الدولة وهيبة الدولة.
لكن الدولة شيء والهيبة شيء آخر. في البلدان المجاورة للبنان، أمس كما اليوم، كان هنالك دائمًا هيبة بسبب أنظمة الحكم الشمولية أي الاستبدادية حيث لا حرّية ولا ديمقراطية بل سلطة غطّاها وبرّرها ذلك الازدهار المعروف.
اليوم بعد قرار مجلس الوزراء في الخامس من الجاري، بدأت رحلة العودة، رحلة العودة بالنسبة إلى الجميع. لا مارونية سياسية، وفق ذلك التعبير الذي قال به المفكِّر الراحل منح الصلح، ولا شيعية سياسية ولا سنّية سياسية. هذه ليست أحزابًا سياسية. إذ في هذا المعنى لعلنا رجعنا إلى الوراء. بعدما كان في ستينات القرن الماضي ثنائية حزبية وطنية متمثّلة في النهج الشهابي والحلف الثلاثي. وقبله بزمن كان هنالك الحزب الدستوري والكتلة الوطنية.
لكن التطلّع هو دائمًا إلى الأمام. ولبنان هو المرجع. إذ ليس لأي مكوّنٍ طائفي من مكوّناته مرجع آخر.

د. داود الصايغ

لمشاركة الرابط: