لبنان ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار ليس كما قبله

2 كانون الأول 2024

أمَّا وقد وُقِّعَ اتفاقٌ لوقف إطلاق النار ما بين لبنان والعدو الإسرائيلي برعايةٍ أميركيَّةٍ بعد ما يقارب سنة من المناوشات الحدوديَّة على امتداد الحدود اللبنانيَّة – الفلسطينيَّة «كجبهة إسناد لغزَّة» وقُرابة شَهرين من حَربٍ مفتوحةٍ من حيث نوعيَّةِ الأسلِحةِ ومسرحِ العمليَّاتِ بحيث شملَ جميع المناطق اللبنانيَّة وجزءاً كبيراً من وسط وشمال أراضي فلسطين المحتلة، والتي أقلّ ما يقال فيها أنها حربٌ غير مُتكافئةٍ، لاختلال موازين القوى لصالح العدو الإسرائيلي، تمكَّن العدو الإسرائيلي بنهايتها من النَّيلِ من قيادة حزب لله السياسيَّة والعسكريَّة، كما من صفوف مُقاتليه، كما قضى على مُعظمِ هيكليَّتِه الماليَّة ومؤسَّساته الاقتصاديّة، وتعمَّد إنزالَ أكبرِ قدرٍ من الخسائر البشريَّةِ في بيئتهِ الحاضنة كما لدى جميع اللبنانيين بهدف تقليبهم على الحزب ورفضهم لتوجُّهاتِه وخياراته الإقليميَّةِ والمَحليَّة التي أدَّت إلى عزلةِ لبنان، في المُقابل أبدى المُقاومون المُنتشرون على امتدادِ الجَبهةِ صلابةً غير مسبوقَةِ بصمودِهم في وجه العدو وتأخيرِ توغُّلِه ميدانيًّا، وسطَّروا بطولاتٍ ملحميًّةٍ في مواجهةِ آلة الحرب الإسرائيليَّةِ بوسائلَ قتاليَّةٍ متواضعة، مُستفيدين من تضاريسِ الأرض، وكفاءاتهم القتاليَّة العاليَة، إلَّا أن ذاك الصمود لم يَحُد من الخسائر الفادِحةِ التي لحِقَت بلبنان.
التَّضحياتُ الجِسامُ التي قدَّمها المُقاومون وبيئتُهم الحاضِنةُ ولبنانُ ككل، تدعونا للوقوفِ إجلالاً لإرواحِ الشُّهداءِ ودمائهِم الطَّاهِرَةِ التي سُفِكَت في مَعرَضِ هذه الحرب، والتَّفكُّرِ مليًّا بما لحقَ بنا من خسائرَ باهظةٍ في الأرواح والمُمتلكات، وتقييمِ ما آلت إليه هذه الحربِ وتحليلِ أسبابِها وما إذا كانت قد حَقَّقت غاياتها، لاستِخلاصِ الدُّروسِ واستقاء العِبر من التَّجاربِ السَّابقَة، واستِشرافِ التَّوجُّهاتِ المُستقبليَّةِ الأمثل التي ينبغي تبنّيها للخُروج من المُستنقعِ الذي انزلقنا إليه، تجنُّباً للمَزيدِ من الخياراتِ غير المدروسةِ والمدمِّرةِ ووَضعِ بلدِنا مُجدَّداً على سِكَّةِ النُّهوضِ والازدِهار.

ونزولاً عند رغبةِ البعضِ في طيِّ صَفحةِ الماضي بكُلِّ مُماحكاتها وتَعقيداتِها والإخفاقات التي طاولتنا، فلنبدأ التَّقييم من الاتفاق الذي أوقف الأعمال القتاليَّة، والذي يعتبرُ أقرب إلى هدنة منه لاتفاقٍ يضع نهايةً للحرب، كونه مُحدَّد من حيث المُهلَةِ بستين يوماً، والمُكبَّل بشروطٍ إسرائيليَّة، تُتيحُ المجالَ للعدو الإسرائيلي لخِرقِهِ متى يشاء بذريعَةِ إخلال الجانب اللبناني بأيٍّ من التزاماته.

قضى الاتفاق المُشار إليه، بالتزام الطَّرفين المَعنيين «أي لبنان وإسرائيل» بكافَّةِ بنود ومندرجات قرار مجلسِ الأمن رقم 1701/2006، والذي أشار في أحدِ بنوده لوجوب احترامِ الطَّرفين لما سبقهُ من قراراتٍ دوليَّةٍ وبالتَّحديد القرارين 1559 و1680، كما تضمن شروطاً إذعانيَّةٍ أُخرى فُرِضت على لبنان، منها فصلُ الجبهةِ اللبنانيَّة عن جبهةِ غزَّة، وانسحابٌ كليٍّ لجميع مقاتلي حزب لله لشمال مجرى نهر الليطاني، وتعزيزُ انتشار الجيش اللبناني في المنطقة الفاصلة ما بين الحدودِ اللبنانيَّةِ الفلسطينيَّةِ ومَجرى نهر الليطاني، وحصرُ وجود السِّلاح بالقوى العسكريَّة والأمنيَّةِ اللبنانيَّة النِّظاميَّة، والامتناعُ عن تهريب الأسلحة إلى داخل الأراضي اللبنانيَّة، كما حصرُ عملياتِ تصنيعِ الأسلحةِ بأجهزةِ الدَّولةِ اللبنانيَّة، ولم يأتِ الاتفاقُ على ذكر أيِّ نصٍّ يتعلَّقُ بمَصيرِ الأسرى اللبنانيين الذين أسرهم العدو الإسرائيلي خلال العمليات القتاليَّة وجثامين الشُّهداء التي احتفظ بها ونقلها إلى داخل الأراضي الفلسطينيَّةِ المُحتلَّة؛ وشُكِّلت لجنة للإشراف على حسن تنفيذه برئاسة الولاياتِ المُتَّحِدَةِ الأميركيَّة؛ وعُزِّزَ باتِّفاقٍ ثنائيٍّ ما بين العدو وحليفته «الولاياتِ المُتَّحِدةِ الأميركيَّة» يوفِّرُ الكثيرَ من الضَّماناتِ الأميركيَّةِ لحفظ أمن الكيان الإسرائيلي منها: الاعترافُ بحق الأخيرة في التَّدخل عسكريًّا لمُواجهةِ تهديداتٍ موجَّهةٍ ضدها من داخل الأراضي اللبنانيَّة، والوقوفُ إلى جانبِهِ في إطار مواجَهَةِ الخَطرِ الإيراني، وتأمينُ احتياجاتِهِ العَسكريَّةِ ودعمُهُ في وجه من يراهُم أعداءَه.

لقد ضمِن هذا الاتفاقُ المنوّه عنه للبنان انسحابَ جيش الاحتلالِ الإسرائيلي من جميع أراضيه خلال ستين يوماً، كما أوقفَ الاعتداءاتِ العسكريَّةِ الإسرائيليَّة على لبنان سواء كانت تستهدفُ الأشخاص أو المُمتلكات (عسكريَّة أو مدنيَّة)، وبالتالي جنَّبه المزيد من الخسائرِ في الأرواحِ والممتلكات، إلَّا أنه ضَمِنَ للعَدو الفصلَ ما بين الجَبهتين اللبنانيَّة والفلسطينيَّة، ووقفَ القِيامِ بأيَّةِ نشاطاتٍ عَسكريَّةٍ من قِبلِ الحِزبِ أو غيرِهِ باتِّجاهِ الأراضي الفلسطينيَّةِ المُحتلَّة، وكذلك وجود أسلحةٍ خارج وحدات الجيش اللبناني داخل المنطقة العازلة أو القيام بأيَّةِ نشاطاتٍ عَسكريَّةٍ غير شرعيّة في عُمق الأراضي اللبنانيَّة بما في ذلك تصنيعُ الأسلحةِ والذخائر وكذلك تسريبُ الأسلحةِ من الأراضي السوريَّةِ أو غيرها.
وعلى الرَّغم من كثرةِ مُحالاتِ التَّشكيك بنوايا الطَرفين المعنيين لجهةِ الإلتزام بتطبيق بنود هذا الاتفاق وترسيخه قياساً على ما حصل عام 2006 وما بعده، إلَّا أن ما يُعزِّز اعتقادنا بصمودِهِ، واتِّخاذه مُرتكزًا لتحقيقِ استِقرارٍ أمني مُستدامٍ على الحَدود اللبنانيَّة – الفلسطينيَّةِ، مبنيٍّ على مُرتكزاتٍ وجيهًةٍ وأساسِيَّةٍ أهمُّها:
أولاً: ثمَّة إرادةٌ دوليَّةٌ عارمةٌ لدى العديد من الدُّول، وبخاصَّةٍ الولايات المُتَّحدة الأميركيَّة وفرنسا وغيرها من الدُّول الأوروبيَّة والغربيَّةِ عامَّة، بالإضافةِ إلى الدُّولِ العربيَّةِ كافَّة، لضمانِ تحييدِ لبنان عن الصِّراعاتِ الإقليميَّة، وعدم تحميله وزرِ أزماتٍ تفوقُ قُدراتِه، ولا سيَّما أن لبنان يُعاني من الكثير من الأزماتِ الدَّاخليَّةِ التي تُهدِّد وجودَه ككيان له خصوصيَّته التَّنوعيَّة.
ثانياً: ثمَّة تواردٌ للمَصالح لدى مختلف الجِهات المعنيَّةِ بهذا الاتفاق سواء بصورة مُباشرة كلبنان (حزب لله على وجه التَّحديد) وإسرائيل، أو بصورةٍ غير مُباشِرَةٍ كإيران وأميركا.
أ- لبنان: لقد أثقلت هذه الحربُ لبنانَ بتبعاتِها الاقتصاديَّةِ والماليَّةِ والأمنيَّةِ والصّحِيَّة، وأضحى بأمسِّ الحاجَةِ للخُروجِ من أتُّونِها في ظِلِّ التَّفاوتِ الكبيرِ في مِقدارِ الخسائرِ البَشريَّةِ والمادِّيَّةِ التي لحِقَت به، مُقارنةً مع ما أُصيبَ به العدو الإسرائيلي، والتَّفرُّغِ إلى إعادَةِ ترتيبِ البيت الدَّاخلي سياسيًّا، تَمهيداً إلى إطلاقِ ورشةِ إعادَةِ الإعمار والازدِهار.
ب- حزب لله: خرجَ الحزبُ من هذه الحربِ غير مُعافًى، وبدا مُثخناً بالجِراح ومُثقلاً بالخسائر البشريَّةِ والماديَّةِ التي لحقت به وببيئتِه الحاضِنة، حربٌ أوهَنت قيادتِه وزعزعت هيكليَّتِهِ التَّنظيميَّة، نتيجةَ خسارتِهِ لمُعظمِ قياديية المُخضرمين، وللآلافِ من مُقاتليه، ولمُعظمِ مُقوِّماتِهِ الاقتِصاديَّةِ والماليَّة؛ وأضحى بحاجَةٍ ماسَّةٍ لالتقاطِ أنفاسِه، وتشييعِ قيادييه، ولإعادَةِ ترميمِ هيكليَّتِهِ التَّسلسُليَّةِ بما في ذلك قيادتاه السِّياسيَّة والعسكريَّة، ولم تسلم بنيتُهُ التَّحتِيّة، وهو بحاجَةٍ أيضاً لإجراءِ عَمليَّةِ نقدٍّ ذاتيَّةٍ لتَحديدِ الأسبابِ التي أدَّت إلى إلحاقِ كمٍّ هائلٍ من الخسائر في صُفوفه وقُدُراتِه، كما لتَقييم أدائه السَّابق وتحديد خَياراتِهِ المُستقبليَّةِ داخِليًّا وخارِجِيًّا.
ج- إسرائيل: لقد تمكَّنَ الكيانُ الإسرائيلي من الإستفرادِ بأعدائه، الأمرُ الذي سهَّلَ عليهِ تحقيقَ مَراميه من الحربِ فبعدَ أن قوَّضَ قُدراتِ حماس انتقلَ إلى الجبهةِ الشماليَّةِ لتَصفيةِ حساباتِه مع حزب لله، وتمكَّنَ من النَّيلِ من قِياداتِه، وبنيَتِه التَّحتيَّةِ الماليَّةِ والاقتصادِيَّة، ومُعظَمِ المُنشآتِ والمَراكزِ الاجتِماعيَّةِ والصُّحيَّةِ الخاصَّةِ به، وربما أنجزَ تحقيق ما لديه من أهدافٍ مُعتلمً لديه، ورغم ذلك يمكننا القول أنه خرجَ مُهشَّماً من هذه الحربِ نظرًا لعدد الإصاباتِ في صفوف جيشِه، وتدميرِ عددٍ كبيرٍ من مُدرعاته، وتخريبِ العَديد من تَجهزاته العَسكريَّة، هذا بالإضافةِ إلى استهدافِ عددٍ من مواقعِهِ العسكريَّة في العُمق الإسرائيلي لأول مرة في تاريخ حروبه ولم تسلم منها عاصِمتُه تل أبيب، هذا عدا الخسائر الماديَّةِ الجسيمةِ التي لحقت بمُعظمِ مُستوطناتِهِ الشَّمالِيَّة؛ وما دفعه لإبرامِ هذا الاتِّفاقِ يتمثَّل في كون الاتفاق يلبي شروطه، ولتَجنُّب المزيدِ من الخسائر، ولتمكين جيشِهِ من أخذ قسطٍ من الرَّاحَةِ ولتَعزيز مَخزونِه من الأسلحَةِ والذَّخائر، وأخيرًا ليُكمِّلَ استعداداتِهِ للقِتالِ على جَبهاتٍ أُخرى، هذا بالإضافةِ إلى إظهارهِ تجاوباً لرغبةِ الإدارة الأميركيَّةِ كمكرُمةُ لها لوقوفها إلى جانبه ولتوفيرِها الدَّعمَ السياسي والعسكري واللوجستي له، بإصراره على أن يتولى أميركيًّا رئاسةَ اللجنةِ المولجَةِ بالإشرافِ على التَّنفيذ.
د- إيران: أدركت إيران حجم الخسائر التي لحقت بالحزب، ولتَجنُّبها المزيد من الانتقادات اللبنانيَّةِ التي بدأت تُوجَّه إليها، واتهامها بأنها فرَّطت بالحزب وقادته، لذا رأت في الاتفاق فرصةً لا تعوَّض للتَّخفيفِ عنه وعن بيئته، فأوعز بالسير به مع علمِها بعدَمِ توازنه، ولكونها ترى فيه بادرةً لإتاحَةِ المَجالِ لإطلاقِ مُبادراتٍ دبلوماسيَّةٍ قد تقيها مَخاطِرَ الإنزلاقِ في حربٍ مُباشِرَةٍ مع إسرائيل وحُلفائها.
هـ- أميركا: لم تخف الإدارةُ الأميركيَّةُ الحاليَّةُ تعاطفَهما واصطفافَها ودعمَها اللامحدود للكيان الإسرائيلي، ووفَّرت له غطاءً سياسيًّا لكلِّ ما قام به من انتِهاكات في قِطاعِ غزَّةَ، وجنَّبته بمواقفِها الحاسمة والإنذارات الواضحة والحشود العسكريَّة الضَّخمةِ مخاطرَ الإنزلاق إلى مواجَهَةٍ عسكريَّةٍ شاملةٍ على امتداد جبهات مُتعدِّدة، كما رأت فيه فرصةً لتَسويق نفسِها كراعٍ لعمليَّةِ التَّفاوض، وكمُقاربةٍ ناجحةٍ لإنهاء الصِّراعِ القائم في الشَّرقِ الأوسَط وفق توجُّهاتها.
كلُّ تلك المُعطياتِ توحي أن المناخَ السائد مُلائماً لإخراج لبنان مما ابتُلي به من مِحن، وعلى المَعنيين أن يدركوا أن الظروفَ الراهنةَ ليست مناسبةً لمساءلة ومحاسبة بعضهم البعض، وأن دوامَ الحال من المُحال، وقد يجرُّ لبنان إلى مَخاطر هو بغنى عنها؛ وهذا يُملي عليهم التَّحلي بمسؤوليَّةٍ وطنيَّةٍ والإقلاع عن المُهاترات للخروج من المتاهات التي يتخبطون بها، والتَّعامل بحسنِ نيَّة تجاه الفُرقاءِ الآخرين، في مُعالجَةِ الملفات العالقَة، بدءاً باستحقاقِ رئاسةِ الجُمهوريَّةِ وتشكيلِ حكومةِ إنقاذٍ وطني، والانصراف سريعاً للتَّصدي للتَّحديات المُستقبليَّة، باعتمادِ سلسلةٍ من المُبادرات المُتكاملة، منها:
– عقدُ مؤتمرٍ وطنيٍّ جامعِ يُخصصُ للتَّباحُث في الأُطرِ الكفيلةِ في صون السِّيادةِ اللبنانيَّة، ومُجابهةِ المَخاطر الخارجِيَّة.
– إطلاق ورشةِ إصلاحٍ سياسيَّة لضمان حسن سير العمل في المؤسَّساتِ الدُّستوريَّة، والالتزامِ بالأسس الدِّيمقراطيَّة، وتحديث قانوني الأحزاب والانتخابات البرلمانيَّة، ووضع مجلس الشيوخ موضع التنفيذ.
– إطلاقُ ورشة إصلاح إداري بغرضِ تفعيل القِطاع العام، وترشيدِ استغلال الموارد البشريَّة والإمكاناتِ الماديَّة.
– إطلاقُ ورشة إصلاح خاصَّة بالقطاعين المالي والمَصرفي، تقوم على ضمان الودائع المَصرفيَّة ومنع المُضاربة على العملة الوطنيَّة، وتحفظُ استقرار قيمتها الشرائيَّة.
وأختُمُ بالتَّوجه لعموم اللبنانيين لدعوتهم إلى القيام بدورهم الوطني من خلال ممارسة حُقوقهم السِّياسِيَّةِ كاملةً والإيفاء بواجباتهم الوطنيَّة، وعدمِ الانسياق خلف الاصطفافات الفئويَّة، والتَّحرُّرِ من عُبودِيَّةِ الأشخاص، والتَّيقن أن الأوطان لا تُبنى إلّا بشراكَةٍ حقيقيَّةٍ بعيداً عن لُغةِ التَّفرُّدِ والاستِفراد؛ وعسى أن يكون ما بعد هذا الاتفاق ليس كما قبله.

د عادل مشموشي – اللواء

لمشاركة الرابط: