زيارتان متزامنتان، دون تنسيق مسبق، شغلتا الوسط السياسي والديبلوماسي، وفتحتا آفاقاً جديدة أمام الوضع اللبناني المتأزم.
الزيارة الأولى قام بها الموفد الفاتيكاني المونسنيور بترو بارولين إلى بيروت، حاملاً معه، ومن موقعه التنفيذي الأول في الفاتيكان، هواجس المرجعية الكاثوليكية الأولى في العالم، من إستمرار التدهور الراهن في أوضاع البلد العربي الذي يحمل رمزية الوجود المسيحي في الشرق، ورئيسه المسيحي الوحيد بين ملوك ورؤساء الدول العربية.
ليس دقيقاً الكلام الذي يردده البعض ، بأن زيارة الرجل الثاني في الفاتيكان لم تحقق أهدافها. بل لعلّ العكس هو الصحيح، حيث من المتوقع أن تظهر نتائج المحادثات التي أجراها أمين سر دولة الفاتيكان، على المستويين الكهنوتي والسياسي، في الأسابيع القليلة المقبلة، من خلال إجراءات ومواقف، في الدائرتين الدينية والوطنية، ستشكل بداية تغيير جذري في الوضع الراهن.
أبلغ بارولين من يعنيهم الأمر أن الصراعات الحادة بين القيادات المارونية، وما تفرزه من إنقسامات في الشارع المسيحي ليست مقبولة، وتؤدي إلى إضعاف الدور المسيحي في المعادلة اللبنانية، وتوفر المبرِّرات للشغور الحالي في رئاسة الجمهورية، وبالتالي تغييب المنصب المسيحي الأول عن مواقع القرار، في هذه المرحلة الدقيقة بالذات.
والمتابعون لوقائع الزيارة الفاتيكانية، يُشيرون إلى أن إهتمام بارولين لم ينحصر بمحاولة جمع رؤساء الأحزاب المسيحية، وهي مهمة تبقى في صلب مسؤولية المرجعية المحلية في بكركي، بقدر ما كان التركيز واضحاً، على ضرورة مراجعة مواقف الأطراف المارونية من الإستحقاق الرئاسي، بما يؤدي إلى تسريع إجراء الإنتخابات في أسرع وقت ممكن، وعدم إفساح المجال لتأجيل هذه الخطوة إلى ما بعد الإنتخابات الرئاسية الأميركية، والتمسُّك بصيغة « لبنان وطن الرسالة»، بعيداً عن طروحات الفيدرالية، والشعارات الشعبوية الأخرى.
ويربط هؤلاء بين هذا التوجه الفاتيكاني، وحرص المونسنيور بارولين على التصريح أمام الإعلام من عين التينة، بعد لقائه الودّي مع الرئيس نبيه برّي، بأن حل أزمة رئاسة الجمهورية يبدأ من هنا. وهو ما يُعتبر بمثابة موافقة ضمنية على إجراء جولات التشاور والحوار لأيام معدودة، في إطار محاولة للتوافق على مرشح ثالث، قبل الذهاب إلى الجلسات المتتالية لإنتخاب الرئيس العتيد.
أما بالشأن الكهنوتي، فثمة توقعات، يجري التكتم على تفاصيلها، حول تغييرات في بعض المواقع القيادية، على خلفية التغيير البارز الذي حصل في الفاتيكان، والقاضي بتعيين المطران ميشال جلخ، أمين سر «دائرة الكنائس الشرقية» في الفاتيكان، والذي تخضع لإدارته كل الكنائس الكاثوليكية في المشرق، ولو كان بعضها بتولي مطارنة أو بطاركة أعلى منه كهنوتياً، مثل الوضع الراهن في بكركي، حيث كان المطران جلخ لا يتوافق مع البطريرك الراعي في إدارة بعض الملفات الحساسة، والبالغة الأهمية.
الزيارة الثانية التي شهدتها بيروت، ولكن بضجيج إعلامي أقل من الأولى، هي مجيء المساعد الأول لأمين جامعة الدول العربية حسام زكي إلى العاصمة اللبنانية، بمهمة تختلف عن المهمات الإستطلاعية السابقة، والتي حملت تحوّلات كبيرة، بعضها كان مفاجئاً لأطراف لبنانية بارزة على الساحة السياسية.
إلى جانب الكلام الروتيني عن أزمات لبنان المتناسلة، والوضع المتفجِّر في الجنوب، وتداعيات إستمرار الشغور الرئاسي، بادر الديبلوماسي العربي المخضرم محدثيه بقرار تم إتخاذه في أحد الإجتماعات الأخيرة لجامعة الدول العربية، ويقضي برفع إسم حزب الله عن لائحة الإرهاب التي تعتمدها الجامعة العربية.
وأهمية هذا القرار أنه صدر بإجماع الدول الأعضاء، حتى تلك التي كانت قد طلبت إعتبار الحزب منظمة إرهابية.
ويعكس هذا القرار العربي التحسُّن الطارئ على العلاقات العربية ــ الإيرانية، منذ توقيع إتفاق بكين بين الرياض وطهران في آذار عام 2022، وتم على أثره معالجة بعض الملفات الإقليمية الشائكة. فضلاً عن تطويق مواقع الفتنة السنّية ــ الشيعية، وخاصة في لبنان والعراق.
وعلى خلفية قرار رفع الحزب عن قائمة الإرهاب العربية، عُقد لقاء بين موفد الجامعة العربية حسام زكي، ورئيس كتلة نواب الحزب محمد رعد، هو الأول من نوعه منذ أواخر عام 2006، بما يعني حصول تغيُّر جوهري في علاقة الجامعة مع الحزب، وعودة التعامل معه بشكل طبيعي مثل بقية الأطراف السياسية.
وبإنتظار ظهور الدخان الأبيض من التطورات والتغييرات في الوضع المسيحي، وتبيان مسار الوضع المستجد بين الحزب والجامعة العربية، بعد إلغاء «إرهابية» الحزب يبقى الوضع اللبناني عالقاً بين «الصفقة» في غزة و«التسوية» في الجنوب، والحرص على عدم الإنزلاق إلى حرب شاملة.
المصدر : اللواء