أوروبا والركود التضخمي …بقلم ريكاردو غصن

في حين كان الجميع ينتظر إنهيار روسيا بسبب العقوبات وإنهيار أوكرانيا بسبب الغزو، فاجأت القارة الأوروبية الجميع وبدأت تنازع مع بداية سقوط اليورو الكبير لأدنى مستوياته منذ أكثر من عشرين عاماً.
السبب الرئيسي لهذا الهبوط مرده شبح التضخم الذي يعاني منه العالم أجمع منذ سنتين،فقد أصبح والأوروبيون بعد الحرب على أوكرانيا أكثر المتضررين، أضف إلى ذلك إرتفاع أسعار الفائدة على الدولار والركود العالمي. وهذا أبرز ما يخيف خبراء الإقتصاد في القارة الزرقاء، حيث أن الركود والتضخم هما ظاهرتان منفصلتان عادةً ، ولكننا حالياً نشهد ما يعرف بالركود التضخمي وما سيرافقه من مؤشرات إقتصادية متدنية، بطالة عامة وتراجع في إنتاج المصانع لقلة الطلب.
أوروبا وسنة 2023
بتوقعات متشائمة لإقتصادها، تدخل أوروبا سنة 2023 بعد أن أجبرتها واشنطن على اللحاق بسياساتها العشوائية والعدائية تجاه روسيا والتي ترجمت مخاوف وإنهيارات وتصريحات حول الإقتصاد الأوروبي ككل وحتى مظاهرات خرجت من مناطق عديدة داخل الكيان الأوروبي.
أما التحذيرات فتتكرر على كافة المستويات وآخرها ما صرح به نائب رئيس البنك المركزي الأوروبي من أن منطقة اليورو تواجه وضعاً إقتصادياً صعباً للغاية من حيث معدلات التضخم المرتفعة، ما يؤدي إلى هجرة ملحوظة للمصانع والصناعات الأوروبية، وأيضاً الخلافات مع الحليف الأساسي (واشنطن) حول كل ما يجري على حساب أمن ورفاهية الشعب الأوروبي، ما يؤكد بأن أوروبا قد دمرت بشكل ممنهج إقتصادها وتعاني من تراجع كبير بمستوى العيش فيها.
فأوروبا تواجه ركوداً طويل الأمد ومعدلات تضخم مرتفعة تتزامن مع التباطؤ الإقتصادي، ناهيك عن تداعيات أزمة الطاقة وقرارات البنك الأوروبي برفع معدلات الفائدة 4 مرات خلال سنة 2022 (2.50% ←€) في محاولات يائسة للسيطرة على التضخم.
وتشير الأرقام بأن سنة 2023 ستكون إمتداداً لعام 2022 إن من ناحية الإنكماش في النشاط الإقتصادي وزيادة في الركود مع توقعات نمو إجمالي الناتج الداخلي GDP)) 0.3% خلال هذا العام.
ويتوقع الخبراء بأن أداء ألمانيا سيكون الأسوأ على مستوى التكتل حيث يرجح أن تسجل إنكماشاً نسبته 0.6%، أما معدل التضخم يتوقع أن يسجل 8.5%.
يذكر بأن في النصف الثاني من سنة 2022 هبط سعر صرف اليورو مقابل الدولار إلى أدنى مستوياته خلال عقدين في مواجهة الدولار الأميركي نتيجة البيانات الإقتصادية الضعيفة حيث بلغ مستوى 0.9535، مما أدى إلى تراجع حاد للأسهم الأوروبية من جراء مواصلة الإحتياطي الفيدرالي في سياسة رفع الفوائد لمكافحة التضخم.
ما هو مصير اليورو؟
إفتتاحية إستعمال العملة الموحدة (اليورو) في إحدى عشرة دولة ضمن الإتحاد الأوروبي جاءت في أوائل عام 1999. وكان الهدف من هذه العملية هو الإستقرار وتحقيق الإزدهار لآوروبا ككتلة إقتصادية قوية مستقلة. ولكن بعد مرور أربع وعشرون عاماً يقف اليورو أمام مفترق طرق. إذ مع وجود هذا الإتحاد الإقتصادي (28 عضواً بعد إنضمام كرواتيا مؤخراً) يعاني اليورو من تجاذبات مستمرة بين الأهداف المشتركة للدول التي تستخدمه والأهداف الخاصة لكل دولة وحدها. وعليه نلاحظ بأن محركات أوروبا الإقتصادية – فرنسا وألمانيا – يعملان على توحيد ما كان يجب توحيده أساساً: السياسة والإقتصاد.
لكن في الواقع مع إستمرار الحرب وهي طويلة الأجل، سيؤدي هذا إلى المزيد من الإنزلاق لليورو نحو مستوى 0.8450 (Chart) على المدى البعيد. أما المحاولات البناءة لتغيير المسار التنازلي هو بتضييق فارق أسعار الفائدة مع أسواق السندات العالمية الأخرى. إذ زاد البنك الفيدرالي أسعار الفائدة على الدولار حيث بلغت %4.50، بينما ما زالت الفائدة على اليورو %2.50 حتى كتابة هذه السطور.
وقد يؤدي تسارع التضخم إلى تحفيز البنك المركزي الأوروبي برفع أسعار الفائدة وهذا ما قام به سنة 2022 في سابقة منذ أحد عشر عاماً، ومن المتوقع ان يستمر على هذه الوتيرة خلال هذا العام. وهو أيضاً يحاول التخفيف من آلية التباطوء ويهدف إلى زيادة تكاليف الإقتراض لأول مرة منذ العام 2011. ولكن في المقابل يقوم البنك الفيدرالي الأميركي برفع أسعار الفائدة بشكل أسرع، ما يجعل الودائع على سندات الخزينة الأميركية Treasury Bonds أعلى من عوائد ديون أوروبا، ما يدفع المستثمرين التوجه حكماً إلى الدولار الأميركي كملاذ آمن والإبتعاد عن اليورو.
وهنا يحذر الخبراء من موجة ركود مطولة تحمل في طياتها إنحداراً كبيراً في النشاط الإقتصادي، مع إنخفاض في الإنتاج الصناعي، المبيعات، تراجع في قيمة الأجور، زيادة مؤشرات البطالة – وقد بان كل ذلك عبر الأرقام الضعيفة للناتج المحلي الإجمالي GDP لدول الإتحاد، ما أدى إلى إرتفاع أكثر في أسعار المنتجات، المواد الأولية والطاقة.
ومع إستمرار التضخم لفترة طويلة تصبح تكلفة المنتجات أكثر من القدرة المالية للمستهلكين عندها يشترون بكميات أقل فيتراجع الطلب على المنتجات ما يدفع الشركات والمصانع بتخفيض الإنتاج فتضطر مجبرة إلى تسريح العديد من الموظفين وعندها نشهد إرتفاع في أرقام البطالة ويسيطر شبح الركود أكثر فأكثر، وإنهيار مستمر في أسواق المال الأوروبية كما هو حاصل حالياً لمؤشر ال DAX الألماني وال CAC40 الفرنسي وغيرها، بالإضافة إلى عوامل إنهيار الثقة في الإستثمار والإقتصاد من قبل كبار المستثمرين والمتداولين.
هل يستمر اليورو في رحلة الهبوط؟
واجهت العملة تحديات كثيرة منذ ظهورها وأبرزها أزمة الديون السيادية في عام 2012 التي أتت من اليونان، إسبانيا وإيطاليا. أما اليوم يواجه اليورو أزمة مصير متعددة الجوانب حيث يناور البنك المركزي الأوروبي بقوة برفع أسعار الفائدة بوتيرة توازي الفيدرالي الأميركي وبقية المصارف المركزية الأساسية في العالم.
فما قدرة البنك المركزي الأوروبي على تدارك كل هذه الأزمات، وهل سيظل الإتحاد الأوروبي يدفع ثمن إنعكاسات العقوبات المفروضة على روسيا من حصار وطاقة. لا شك بأن 2023 هي سنة مفصلية لإستمرارية ما يسمى الإتحاد الأوروبي ووجود عملة اليورو ككل.

لمشاركة الرابط: