التمويل العسير في زمن التدمير: كيف يمكن لبنان تمويل إعادة الإعمار ؟

تُقدَّر الخسائر المباشرة للحرب بـ14 مليار دولار، أي ما يعادل 60%؜ من الناتج المحلي الإجمالي للبنان، ونحو ثلاثة أضعاف مشروع موازنة الدولة.
في 21 شباط/فبراير الماضي، أعلن البنك الدولي التكلفة المباشرة للحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والتي قُدِّرت بـ 14 مليار دولار. ومع ذلك، لم يحظَ هذا الإعلان بالاهتمام الإعلامي الكافي ولا بالنقاش العام، إذ تزامن مع الأسبوع الأول لتأليف الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور نواف سلام، وانشغالها المتوقع بتسلم الوزارات وإعداد البيان الوزاري والتحضير لجلسة الثقة في البرلمان.
جاء التقرير المحدث للبنك الدولي بعد التقرير الأولي الصادر في تشرين الثاني/نوفمبر 2024 والذي أشار إلى تدمير وتضرر لأكثر من 100 ألف وحدة سكنية، بالإضافة إلى أضرار جسيمة في البنية التحتية والمرافق العامة، بما في ذلك شبكات الكهرباء والمياه والاتصالات والطرق، فضلاً عن الخسائر التي لحقت بالقطاعين الزراعي والصناعي والضرر البيئي، نتيجة حرب تدميرية غير مسبوقة قام بها الاحتلال الاسرائيلي على لبنان.
ليس هذا من باب التهويل، لكن التكلفة الضخمة لا بد أن تثير هاجسا مهولاً عند الحكومة الجديدة، إذ تشكل تحدياً جسيماً لقدرة لبنان على تأمين التمويل اللازم لإعادة الإعمار بعد أكثر من عام من التدمير الممنهج الذي لحق بالبلدات والقرى الحدودية، وخلال الأشهر الصعبة بين أيلول/سبتمبر 2024 وشباط/فبراير 2025 في الجنوب وبعلبك والبقاع الغربي والضاحية الجنوبية. ويبدو تأمين الدعم المالي لهذه العملية عسيراً لأسباب جوهرية:
أولاً: الحجم الهائل للخسائر مقارنة بحجم الإقتصاد اللبناني
تُقدَّر الخسائر المباشرة للحرب بـ14 مليار دولار، أي ما يعادل 60%من الناتج المحلي الإجمالي للبنان، ونحو ثلاثة أضعاف مشروع موازنة الدولة اللبنانية للعام الحالي. هذا الرقم الهائل يجعل تأمين التمويل أمراً بالغ الصعوبة لأي دولة، فكيف بلبنان الذي يعاني أصلاً عدم استدامة الدين العام وإدارته؟
للمقارنة، عندما ضرب الزلزال المدمر تركيا قبل عامين، قُدِّرت تكلفة إعادة الإعمار بنحو 34 مليار دولار، أي ما يقارب 4%فقط من الناتج المحلي التركي. بمعنى آخر، ما شهده لبنان نسبة إلى عدد سكانه ومساحته وحجم اقتصاده جراء العدوان الإسرائيلي، يعادل زلزالاً أقوى بأضعاف مما حدث في تركيا، ولكن من فعل جيش محتل. والرقم المعلن لا يشمل سوى الأضرار المباشرة، إذ إن التكلفة الحقيقية أكبر بكثير عند احتساب الخسائر غير المباشرة على القطاعات الاقتصادية والزراعية والبيئية وسوق العمل.
علاوة على ذلك، تشير تقديرات أولية إلى أن معدل النمو الاقتصادي للبنان عام 2025 قد ينكمش بنسبة 5-7%؜ بسبب الحرب، مع تراجع كبير في الإنتاج الزراعي والصناعي، حيث أدت الاعتداءات الإسرائيلية إلى تدمير مساحات زراعية واسعة ومنشآت حيوية في الجنوب وبعلبك والبقاع.
ثانياً: أزمة التمويل التنموي العالمي وانحسار المساعدات الدولية
يعاني النظام العالمي للمساعدات والتمويل التنموي والإنساني أزمة حقيقية وضغوطا كبيرة في السنوات الأخيرة، ازدادت تفاقماً مع تغيّر الحكومات أخيرا في الولايات المتحدة وأوروبا وبريطانيا. فقد بلغت الفجوة التمويلية للدعم التنموي في الدول النامية نحو 200 مليار دولار، وهي مرشحة للاتساع أكثر مع إعلان ثماني دول صناعية خططا لخفض المساعدات التنموية بمقدار 17,2 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.
إضافة إلى ذلك، أوقفت الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب، المدعومة من إيلون ماسك، معظم برامج الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) وفككتها. وأعلنت الحكومة البريطانية أخيراً عن نقل 5 مليارات دولار من مخصصات المساعدات التنموية إلى موازنة الدفاع والإنفاق العسكري لدعم أوكرانيا والإستراتيجية الدفاعية. كل ذلك يقلص إمكان حصول لبنان – والكثير من الدول النامية – على مساعدات خارجية لإعادة الإعمار وزيادة التنافس على دعم مالي متضائل.
ثالثاً: عدم سهولة الحصول على الدعم العربي
لطالما شكلت المساعدات العربية، خصوصاً من دول الخليج العربي، ركيزة أساسية لإعادة إعمار لبنان بعد الحروب، كما حدث بعد الحرب الأهلية واتفاق الطائف مع الرئيس الراحل رفيق الحريري، وكما حصل بعد عدوان تموز/يوليو2006 . ولكن اليوم، من غير المتوقع أن يكون الدعم العربي بالسهولة والسرعة التي شهدناها في المراحل السابقة، لأسباب عدة، أبرزها ارتباط المساعدات بشروط إصلاحية مطلوبة من لبنان، وهي شروط لم يتم تحقيق الكثير منها بعد، وتتطلب وقتاً لإنجازها من الحكومة الحالية. وكذلك لتركيز الدول الخليجية في السنوات الأخيرة على الشؤون الداخلية، وبخاصة على تنفيذ خططها التنموية والاستثمارية الطموحة، الهادفة إلى تنويع اقتصاداتها والانتقال من الاعتماد على النفط والغاز والاستثمار في تطوير رأس المال البشري المحلي في مجالات التعليم والصحة والابتكار.
رابعاً: غياب الخيارات المحلية لتأمين التمويل
تبدو الخيارات المحلية لتأمين التمويل شبه معدومة، سواء عبر الخزينة العامة أو من خلال الاقتراض. فلبنان يعاني عجزاً مزمناً في الحساب الجاري، إذ إن إيرادات الدولة بالكاد تكفي لتغطية النفقات الأساسية، في ظل انهيار الاقتصاد وانخفاض قيمة العملة الوطنية وضعف الجباية.
ومع استمرار الأزمة المالية، باتت قدرة الدولة على تخصيص أي موارد لإعادة الإعمار شبه معدومة، خصوصاً في ظل الأولويات الضاغطة مثل الرواتب وأجور القطاع العام ومتقاعديه، وتمويل الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم.
أما على صعيد الاقتراض الخارجي، فإن لبنان يواجه تحديات جسيمة، إذ إن تصنيفه الائتماني في أدنى مستوياته، ما يجعل حصوله على قروض دولية أمراً شبه مستحيل من دون ضمانات وإصلاحات كبيرة، تتطلب ورشة تشريعية يصعب على مجلس نواب في سنته الأخيرة القيام بها لما قد تحمله من قرارات غير شعبية. وحتى في حال توافر قروض، فإن البلاد تفتقر حالياً إلى القدرة على تحمل ديون إضافية، ولا سيما مع ارتفاع الدين العام إلى مستويات غير مستدامة.
إلى ذلك، تعاني المصارف اللبنانية ضعفا شديدا بعد الانهيار المالي المستمر منذ عام 2020، ما أفقدها القدرة على تمويل مشاريع كبرى أو حتى تقديم تسهيلات ائتمانية واسعة النطاق، ناهيك بعدم قدرتها على تسديد قيمة الودائع لزبائنها.
كما أن فقدان ثقة المودعين والمستثمرين بالنظام المصرفي أدى إلى شحّ السيولة، مما يجعل من الصعب الاعتماد على الاقتراض المصرفي في تمويل إعادة الإعمار.
خامساً: ضعف القدرة الاستيعابية للقطاع العام في إدارة التمويل
إلى جانب التحديات المالية، يواجه لبنان معضلة حقيقية في القدرة الاستيعابية للقطاع العام على استيعاب وإدارة مليارات الدولارات من التمويل المطلوب لإعادة الإعمار. فالإدارات والمؤسسات الرسمية، وخصوصا الوزارات الأساسية المعنية بهذا الملف مثل وزارة المال، تعاني نقصا حادا في الكوادر البشرية بسبب التقاعد وتجميد التوظيف، وهجرة الكفايات، وتراجع مستوى الخدمات الإدارية نتيجة الأزمة الاقتصادية والمالية.
وهذا الخلل يشمل أيضاً الإدارات الأخرى المعنية بالإعمار، مثل وزارة الأشغال العامة والنقل، ووزارة الطاقة والمياه، ووزارة البيئة، ومجلس الإنماء والأعمار، والتي تعاني كلها ضعف الموارد البشرية والتقنية اللازمة لتنفيذ مشاريع واسعة النطاق بكفاية وشفافية.
نحو تمويل مبتكر ومختلط لإعادة الإعمار
في ظل التحديات الهائلة التي تواجه تمويل إعادة الإعمار في لبنان، يصبح من الضروري البحث عن حلول تمويلية مبتكرة ومختلطة (blended finance) تتجاوز الطرق التقليدية أو الأدوات السابقة. فبدل انتظار دعم مالي ليس بالسهل أو السرعة الحصول عليه، يجب التفكير في آليات مبتكرة يمكن أن تسهم في تمويل عملية إعادة الإعمار والتعافي على نحو فعال وعادل.
أولاً، فيما يختص بإعادة بناء الوحدات السكنية والمقدرة بأكثر من 100 ألف وحدة، فإن أحد الحلول الممكنة هو الشراكة مع المؤسسات التمويلية الدولية والعربية ومصرف الإسكان في تمويل إعادة إعمار وحدات سكنية صغيرة بتكاليف موحدة (لا تتجاوز 100 متر مربع) عبر صندوق خاص للإعمار يمول بأدوات تمويلية مختلطة تساهم فيه المؤسسات التمويلية العربية والدولية وتشارك الدولة اللبنانية بجزء منه عبر هبات خارجية لدعم هذا الصندوق وتقديم تمويل لإعادة الإعمار يكون جزء منه على شكل هبات وجزء آخر قروضاً مدعومة وطويلة الأمد، أي بين 20 و25 عاماً، وبصفر فوائد لإعادة بناء المنازل، على أن يصار إلى استخدام الأموال المسددة في الصندوق لتكون قروضا متجددة (revolving fund) للإعمار ولاحقا لدعم إسكان ذوي الدخل المحدود. هذا يتطلب بطبيعة الحال دورا كبيرا للمديرية العامة للتنظيم المدني لوضع تصاميم وأنظمة للقرى والبلدات والمدن المتضررة، وكذلك للمديرية العامة للشؤون العقارية في ما يتعلق بمسح الأراضي وتحديد الملكيات.
ثانياً، في ما يتعلق بالبنية التحتية، فإن التمويل الأخضر من مصادر متعددة مثل الصندوق الأخضر للمناخ يمثل فرصة حقيقية لتمويل التأهيل وإعادة الإعمار في هذه القطاعات، مثل الكهرباء والمياه والصرف الصحي وإدارة النفايات عبر ربطها بسياسات التعافي الأخضر والاستفادة من المبادرات الدولية التي تدعم التحول إلى بنية تحتية مستدامة وصديقة للبيئة.
ثالثاً، في ما يتمحور حول التعافي، يمكن الاستفادة من الموارد الوقفية، عبر استحداث صناديق بالتعاون مع الأوقاف لدعم المجتمعات المحلية في النهوض والتعافي.
ويمكن تفعيل هذه الأدوات من خلال مساهمات المغتربين اللبنانيين، الذين لطالما أدوا دوراً محورياً في دعم المجتمع والاقتصاد اللبناني خلال الأزمات.

إن الاستقرار الاجتماعي والأهلي في لبنان لا يملك ترف الانتظار، وبمالية عامة ضئيلة وبقطاع مصرفي منهك وثقة مفقودة، يكمن التحدي الآن في إيجاد سبل مبتكرة لجذب التمويل وضمان حسن استخدامه، بما يعيد بناء ما تهدم ويضع البلاد على مسار تعافٍ حقيقي ومستدام.
في فترة العدوان وتهجير أكثر من مليون مواطن ومواطنة، قلنا إن الانتصار الحقيقي هو بعودة الناس إلى قراهم وبلداتهم ومدنهم، والآن يجب أن يستكمل ذلك بإعادة إعمار هذه القرى والبلدات والمدن.

المصدر: النهار
*ناصر ياسين – وزير البيئة السابق

عدسة nextlb.com

لمشاركة الرابط: