رحلة الفطام بين أولاد الحرام وأولاد الحلال..بقلم هناء حمزة

هناء حمزة

جمعنا العمل وولد وحيد وإجازة الصيف .. هو في طريقه الى الولايات المتحدة لإيصال ابنه الوحيد الى الجامعة وأنا في طريقي الى انكلترا لإيصال ابنتي الوحيدة الى الجامعة ..
يكفي أن تكون تستعد لهذه المهمة الصعبة حتى يتحول إجتماع العمل الى دردشة عن الولد الوحيد وتحدي الحياة الجامعية ..
أقول ” أولادكم ليسوا لكم إنهم أولاد الحياة .. ربينا وزرعنا القيم والصح والخطأ والباقي عندهم، الحياة لهم وهم أولادها”.
يقول ” الله يحميهم ويبعد عنهم أولاد الحرام”.
حتى اللحظة لم أكن أفكر بأولاد الحرام .. فكرة أولاد الحرام كانت بعيدة عني …لكنها رافقت رحلتي الى انكلترا خطوة خطوة ..
وصلنا الى بريستول المدينة التي اختارتها ابنتي للدراسة .. حجزت فندقاً لي في وسط المدينة في حين قررت ابنتي المبيت في سكن الجامعة من اليوم الأول ..
قد تكون التجربة الأصعب في حياتي التي لم تكن سهلة على الإطلاق ..
جهزت لإبنتي غرفتها في السكن الجامعي وعدت الى الفندق … خمس ليال سأقضيها في هذا الفندق وحيدة أكتشف المدينة بينما تكتشف ابنتي جامعتها..
أنزل الى ساحة المدينة ، أمشي في شوارعها وأحيائها الصغيرة ، أدور حول الجامعة ومساكن الجامعة.. وجوه غريبة … مجتمع مختلف تماماً… مدينة مختلفة تماماً .. كيف سأترك ابنتي الوحيدة .. وحيدة وسط هذه الوجوه… لا كلمات ممكن أن تعبر عن ما أشعر به .. طنين ” أولاد الحرام “لا يتوقف في أذني..هل بين هذه الوجوه أولاد حرام؟.. أكتئب.. أنهار .. أشعر بصداع رهيب.. أتصل بابنتي .. “أين أنت ؟ احضري فوراً الى الفندق “.. تأتي بال “أوبر” ، أستغرب الفاتورة التي جاءت ضعف المعتاد …أصرخ بوجه لين .. “لا تنتبهي أين أخذك السائق.. ممكن يخطفك .. أنت لست بدبي.. ” تربت لين في دبي حيث الأمن والأمان ..تستغرب صراخي بوجهها.. “ماما روقي .. لا شك أن مرحلة الإنتقال الى الجامعة تشكل تحدياً صعباً للأولاد كما للأهل .. أشعر بتوترنا معاً ..أحاول امتصاص التوتر .. أرسم إبتسامة صفراء على وجهي وأدعو ابنتي الى رحلة لإستكشاف محيط جامعتها سيراً على الأقدام.
نخرج من الفندق .. أتمتم مستغربة أشكال الوجوه في ساحة المدنية .. تطلب مني ابنتي أن لا أحكم على الناس من شكلهم.. أرضخ لها فأنا من ربيتها على ذلك .. المشي في المدينة لم يخفف من توتري ..أفشل في ضبط توتري.. يسد سائق فان الطريق ليركن سيارته ويفتح الباب لينزل.. تحاول لين حشر نفسها بين الرصيف والسيارة وهو لتمر.. طنين أولاد الحرام لا يرحم أذني.. تستحضرني ذكرياتي في شوارع مدينتي طرابلس حيث جرت العادة أن نمر من الجهة الثانية على طريق السيارات بدل الرصيف في وضع مشابه .. أشد لين من سترتها وأجرها وأنا أصرخ .. “ليس من هنا .. بتعرفي شو ممكن يعمل فيكي” .. تبكي لين … أبكي أنا .. 18 عاماً لم أصرخ في وجه لين بهذا الشكل .. لم أمسك بها بهذا الشكل ولم أفشل في ضبط نفسي بهذا الشكل …
أستسلم للبكاء .. تقف ابنتي أمامي مذهولة … كانت تنتظر أماً قوية كالعادة .. فشلت … إستسلمت لحالة انهيار تام …جلست على الرصيف ألهث وأبكي… لن أترك ابنتي هنا .. ليست جاهزة لأن تعيش وحدها في مدينة كهذه .. لست جاهزة..أخجل من نفسي.. أخجل منها .. لقد زرع في رأسي تلك الكلمة.. لو لم يكن ذلك الإجتماع ..أفتش على أولاد الحلال.. قناعاتي دائما كانت تؤكد لي بأن أولاد الحلال أكثر من أولاد الحرام.. خلال 50 عاماً من الحياة كان عدد أولاد الحلال الذين مروا في حياتي لا يعد ، بينما قد لا يتجاوز عدد أولاد الحرام عدد أصابع اليد الواحدة .. أرتاح.. أتنفس.. أحاول أن أقف.. تسندني لين مصدومة من ما يحصل .. نطلب تاكسي ..نصل الفندق ويصل ضغطي الى 190على 140 … لم أر هذه الأرقام على آلة الضغط قبل اليوم مع كل ضغوطات الحياة وتحدياتها …
أرتمي على السرير … أشعر بأني أغيب عن الوعي ..عيون لين الشاخصة تجبرني على تجميع قواي ورسم ابتسامة مطمئنة على وجهي …
أطلب منها أن تتركني في الفندق وتذهب الى السكن الجامعي .. ترضخ لطلبي … أنهار.. أستسلم لبكاء مرير …بكاء يفجر ضغوط الماضي والحاضر …
ربيت لين بمفردي ..تحملت المسؤولية كاملة …لم أزرع فيها الا القيم … اعتقدت أنها ستكون لها الحصن الحصين… و ستحميها من أولاد الحرام … يريحني إيماني الفطري بأن الله معي … تمر وجوه أولاد الحلال الذين صادفتهم بأصعب أيام حياتي أمامي .. أمضي الليل على الهاتف مع عمتي أكبر أولاد الحلال الذين أحاطني الله بهم وهم ألف الحمدالله كثر لا يعدوا … سيحمي الله ابنتي من أولاد الحرام كما حماني ويحميني.
أشعر بالطمأنينة… أغرق في نوم عميق أستيقظ منه قبل موعد طائرتي بقليل … الضغط أفضل وانا أفضل …أتجه الى المطار .. أعود الى دبي … تبدأ لين رحلتها الجامعية … وأبدأ انا رحلة من نوع آخر…
إنه موعد الفطام الحقيقي … التحدي الأصعب في حياة الأهل والأبناء معاً …صراع بين “أولادكم لكم وأولادكم ليسوا لكم” … إنهم أبناء الحياة والحياة ستعلمهم التمسك بأولاد الحلال والبعد عن أولاد الحرام …
سنجتمع قريباً وسأقول له أن أولاد الحلال موجودين وبكثرة ولو كان صوت أولاد الحرام أقوى … أولادنا بحمى الرحمن وهو الكفيل بأن يحيطهم بأولاد الحلال… سأجعل”أولاد الحلال” طنين أذنيه في رحلته القادمة …!

هناء حمزة
اعلامية لبنانية مقيمة في دبي

لمشاركة الرابط: