أبو سليم خالد غادَر بيريا الفلسطينية مُكرهاً … وإحتفظ بمفتاح داره في زُنَّاره الى الأبد!

خاص – nextlb
هي قصة العم أبو سليم خالد الذي عرف ب” أبو سليم عمشة” ، من أهل قرية بيريا الفلسطينية ، إحدى قرى قضاء صفد في منطقة الجليل شمالي فلسطين المحتلة ، أرويها في هذه السطور القصيرة لترسخ في ذاكرة هذا الجيل من شباب فلسطين ولبنان ، وتعلق في وجدانهم ، هذا الجيل الذي لم يعش مرارة التهجير والطرد من أرضه منذ أكثر من سبعة عقود ونيف ، وسلبه رزقه وبيته من أعز ما يملك.
لقد أخرج أبو سليم قسراً وقهراً من بلدته في أوائل أيار مايو من عام 1948 بعد مجزرة مروعة نفذتها عصابات الهاغاناه الصهيونية في قريته بيريا التي كان يسكنها حوالي 300 نسمة ، وفي قرية عين الزيتون الملاصقة لها ، إذ قامت هذه العصابة المجرمة بجمع كل من كان يقاومها دفاعاً عن أرضه بعد نفاذ الذخيرة القليلة ، في مسجد عين الزيتون تمهيداً لتفجيره بمن فيه ، ولكن شيوع خبر عن تقدم فريق من الصليب الأحمر الدولي بإتجاه البلدة ، دفع العصابات الصهيونية لتغيير خطتها الإجرامية لتقوم بنقل المعتقلين الى الوادي القريب الذي يفصل عين الزيتون عن بيريا ، وتكبيل أيديهم ، وإعدامهم رمياً بالرصاص بدم بارد ، فيستشهد في ذلك اليوم المشؤوم حوالي 70 مقاوماً كان معظمهم من الشباب ، تركوا لفترة في العراء ، بينما تشرد أهل بيريا وعائلاتها مع أهل قرية عين الزيتون شمالاً بإتجاه الحدود الفلسطينية اللبنانية التي لا تبعد سوى 30 كلم عن بيريا في الجليل الأعلى شمالي فلسطين

سقوط صفد
كان انهيار خط الدفاع الأول المتمثل بقرى شمالي صفد مقدمة أليمة لسقوطها – وهي مركز القضاء – يوم العاشر من أيار مايو ، أي بعد أسبوع تقريباً على سقوط قريتي بيريا وعين الزيتون اللتين تقعا عند سفح جبل مكسو بأشجار الصنوبر والزيتون ، ولا تبعد عن صفد أكثر من كيلومترين
وسقطت صفد بيد العصابات الصهيونية بعد فشل مجموعات جيش الإنقاذ وتواطؤ بعضها التي لم تحارب كما يجب في حمايتها ، بل قامت بشبه عملية تسليم للقرى والبلدات الفلسطينية في الجليل ، فسقطت القرية تلو أختها بعد مواجهات شرسة وغير متكافئة ، وباللحم الحي ، من قبل أهلها مع المحتل الغاصب للأرض ، والمتسلح بسلاح حديث فتاك يومها ، جمع من معظم دول العالم ” المتحضر” للتخلص من العصابات الصهيونية في أوروبا أولاً ، ثم زرعها ثانياً في قلب العالم العربي والإسلامي ، يواجهه أصحاب الأرض بأسلحة قديمة وفاسدة كانوا يحتفظون بها من مخلفات الحربين العالميتين الأولى والثانية وثورة الثلاثينيات ضد الإنكليز، مع بضعة مخازن من الرصاص لا تكفي لفتح معركة قصيرة (راجع المستند المرفق أدناه المرسل قبل سقوط صفد في العاشر من أيار مايو 1948 بساعات والذي يكشف عن نقص في العتاد والذخيرة والمؤن).

أبوسليم والذكرى المؤلمة !
عرفت العم أبو سليم ، رحمه الله ، في بداية شيخوخته ، كان ستينياً قوي البنية غليظ اليدين ، يلبس الزي الفلسطيني ويعمل في تقصيب ورصف الحجارة الصلبة ، ويبدو أنه قد أتقن هذه المهنة فتياً قبل مغادرته أرض فلسطين ، عمل مع والدي رحمه الله في رصف الطرق و مداخل البيوت وأرضياتها بالحجارة في مطلع السبعينيات ، غالباً ما كنت أتأمله جالساً القرفصاء ، يهوي بمطرقته الضخمة بلا كلل على الحجارة الكبيرة الصماء ، فيكسرها ويشذبها تمهيداً لرصفها بشكل متقن “على الخيط ” قبل تغطيتها بالإسمنت ، فتصبح متوافقة مع الهندسة المعمارية المطلوبة .
هُجر أبو سليم من بيريا شاباً قروياً قوياً … وكان وفد الى هذه الدنيا قبيل الحرب العالمية الأولى ببضعة أعوام ، فهو من مواليد عام 1910 ، وكان دون الأربعين من عمره حين سُلخ عن بيريا مرتع طفولته وصباه قسراً في مطلع أيار مايو من عام 1948 لينجو بأفراد عائلته من إجرام العصابات الصهيونية ومجازرها ، ومن حقد المستوطنين الطارئين .

لم يفقد أبو سليم الأمل يوماً بالعودة الى فلسطين ، كان يقول دوما لمحدثيه ونحن منهم :” سأرجع يوماً الى بيتي الذي بنيته في قريتي بيريا أرض أجدادي … هذا مفتاحه في زناري ، ثم يبادر الى فك زنار “شرواله” الأسود ليرينا مفتاحاً أسود ضخماً وهو يتنهد بحسرة .. ويتابع متسائلاً : ” هل أعود يوماً الى هناك يا بُني ؟… لقد خبأت جنى العمر في حيط غرفتي وغطيته بالطين ، ولا شك بأن الليرات الذهبية ما زالت حيث خبأتها هناك ” … ثم يختم بحسرة : “ليت أحداً يأخذني الى بيريا فأرى بيتي قبل أن أموت .”
وتمر السنين والشوق الى الديار يزيد ، وتبقى أحلام أبي سليم بعيدة المنال للأسف ، ولا زالت حتى حينه كذلك … بل لعلها صارت أبعد !
… توفي أبو سليم في بقاعنا كهلاً … لقد أحنى الهم والحزن ظهره من الشقاء والتعب حتى احدودب بقوة ، وتجعدت قسمات وجهه المثقل بالهموم ، وذبلت عيناه وجحظت ، ولكنه لم يفقد الأمل يوماً بالرجوع الى بيريا … بقي حلمه بالعودة قائماً … وبقي مفتاح داره في زناره حتى رحيله عن هذه الدنيا الفانية !

أصبح عندي الآن بندقية !
آه يا عم أبو سليم … لو كنت أعلم ذلك في السبعينيات ، عندما كانت عيناك تدمع وأنت تستمع الى نشيد نزار قباني الوجداني ” أصبح عندي الآن بندقية الى فلسطين خذوني معكم ” بصوت الراحلة أم كلثوم ، من مذياع سيارتنا المرسيدس صباحاً ونحن ذاهبون الى العمل ، لأخبرتك بأن حوالي خمسة عشر منزلاً مبنية من الحجر في بيريا سلمت من الهدم ، ومن الحقد الصهيوني الأعمى حتى اليوم ، ويقيم فيها لصوص الأرض وشذاذ الآفاق ، ومن المحتمل أن يكون بيتك من بينها ، فقد أنشأ الصهاينة مكان قريتك مركزاً سياحياً ومستعمرة زراعية ، واستظلوا أشجار اللوز والتين والصنوبر والزيتون ، واستولوا على عيون الماء وآبارها ، ولا يزالون يأكلون من خيرات ما زرع أهلك وأنت ، والأسوأ من ذلك أنهم إستخدموا حجارة بيوت قريتك التي هدموها في بناء جدران منازلهم في القرية الجديدة التي تمددت على أرض بيريا التاريخية لتتحول الى مستعمرة زراعية ، وتصير مقصداً سياحياً نظراً لطبيعتها الجبلية الخلابة ، وتستخدم بيوتها كشاليهات للإيجار في نهاية الأسبوع ، وتغزو إعلاناتها الصحف الإسرائيلية أسبوعياً للتدليل على شققها السكنية المعروضة للإيجار والتمتع بطبيعتها الجميلة .
رحمك الله يا أبا سليم كم كنت متفائلاً !!.

عاطف البعلبكي
[email protected]

==============================================
إطلالة تاريخية على بيريا

في مطلع القرن السادس عشر كانت بيريا قرية في ناحية جيرة (لواء صفد) ويبلغ عدد سكانها حوالي 300 نسمة. وكانت تؤدي الضرائب على غلال القمح والشعير والزيتون ، بالإضافة إلى عناصر أخرى من الإنتاج والرزق كالماعز وخلايا النحل وكروم العنب ، ومعصرة كانت تستعمل إما لعصر العنب ، وإما لعصر الزيتون.
ولم يتغير الوضع كثيراً في أواخر القرن التاسع عشر ، فقد تطورت البلدة زراعياً وكان معظم سكانها يعملون في الزراعة ويستمدون المياه للإستعمال المنزلي ولري المزروعات من بضعة ينابيع تجري في الجوار ، ويعتمدون على صفد في الحصول على الخدمات الأساسية وتسويق إنتاجهم .
عصابات الهاغاناه نفذت المجزرة !
قامت عصابات الهاغانا الإرهابية الاسرائيلية في 1 أيار مايو 1948 في إطار عملية “يفتاح” بإحتلال قريتي عين الزيتون و بيريا المجاورة لها، وبذلك أمنت لها طريقاً يصلها بالحي اليهودي في صفد عن طريق الجبال حيث بدأ الجنود مع أسلحتهم بالتدفق نحو صفد ، بينما عزلت صفد العربية عن القرى الواقعة شمالها وشمالها الغربي.
وقد تم هذا النزوح على إيقاع مذبحة عين الزيتون في 2 و3 و4 أيار مايو ، إذ أسرت الهاغانا 70 شاباً فلسطينياً من عين الزيتون وبيريا ، واحتجزتهم في مسجد عين الزيتون تمهيدا لنسفه بمن فيه ثم تم تغيير الخطة للتخفي من أمام بعثة الصليب الأحمر ، وأمر قائد كتيبة البلماح موشيه كلمان إثنين من جنوده بتقييد أيديهم خلف ظهورهم ، وقتلهم في الوادي بين عين الزيتون وصفد على مرأى من سكان صفد الذين كانوا يراقبون تنفيذ المجزرة من رؤوس التلال القريبة، ثم تم مباشرة نسف بيوت القرية ومسحها عن وجه الأرض ، فأضحت عين الزيتون أثرا بعد عين ، وبنيت بالقرب منها مستعمرة صهيونية.
وكانت القرية تقوم على المنحدر الجنوبي لتل يشرف على مدينة صفد جنوباً ، ويواجه جبل الجرمق غرباً ، وعند أسفل هذا المنحدر كان يمتد واد عميق و تفصلها عن صفد أراض زراعية يخترقها طريق عام يصل صفد بالبلدات والقرى المجاورة.

إحتلال بيريا حسب الرواية الإسرائيلية
روت صحيفة نيويورك تايمز أن مناوشات جرت في جوار بيريا يوم 7 نيسان أبريل
من عام 1948 ، إذ أعلنت عصابات الهاغاناه للمراسلين الأجانب ” أن 20 عربياً قتلوا في اشتباك وقع بالقرب من جبل كنعان خارج صفد ، ولم تورد الصحيفة أية تفصيلات أخرى ، لكن من الجائز أن القرية كانت متورطة في ذلك الإشتباك نظراً الى وقوعها على منحدر الجبل.”
ويقول المؤرخ الإسرائيلي بني موريس إن فرقة من البلماح إستولت على بيريا في أول أيار مايو من عام 1948 ، بينما استولت قوة أخرى على قرية عين الزيتون المتاخمة ، وذلك تمهيداً للهجوم على صفد ، دون أن يورد تفاصيل أكثر لكن الأرجح – قياساً بما جرى في عين الزيتون – أن سكان بيريا أرغموا على الرحيل ، وربما قتل بعضهم في أثناء ذلك.
ويوضح بني موريس :” أن بعض سكان بيريا كانوا من ضمن 70 شخصاً قتلوا لاحقاً في أخدود يقع بين عين الزيتون و صفد ، بأوامر من قائد كتيبة البلماح الثالثة موشيه كلمان ، ويذكر أن كلمان صادف بعض الصعوبات في العثور على جنود على استعداد للقيام بالمجزرة ، وأنه انتهى الى تكليف رجلين القيام بهذه المهمة ، و بعد أن قتل الأسرى ، وتحسباً لزيارة يقوم بها الصليب الأحمر للمنطقة ، أمر بفك قيودهم، (في محاولة منه لطمس معالم المجزرة لكون عملية القتل قد نفذت عمداً ) ، وحاول نفر غير قليل من سكان القرية العودة الى منازلهم في الأيام القليلة التي عقبت ذلك، لكن قوات البلماح أطلقت النار عليهم وقتلت بعضهم ” وفق ما ذكر المؤرخ موريس .
وبإستيلاء البلماح على هاتين القريتين ، تمكنت قواته من إقامة خطوط الإتصال بالحامية اليهودية المرابطة في صفد ، وتسهيل عملية الإستيلاء على المدينة تالياً.
ويذكر موريس أن “سقوط بيريا أضعف معنويات سكان صفد الذين، وبحسب ما ذكر تقرير أوردته صحيفة نيورك تايمز، بدأوا يغادرون المدينة بعد سقوط تلك القرية ،وقد تم احتلال الجليل الشرقي وصفد في أيار مايو ، في سياق عملية يفتاح “.
أما منازل القرية فقد أحرقت أو نسفتها عصابة البلماح في 2 و3 أيار مايو ، وقد تمت عملية التدمير لترويع سكان صفد ، فقد أضعف منظر تسوية القرية بالأرض من معنويات سكان المدينة ، ومعنويات قرى الجليل الشرقي المجاور.

القرية اليوم
بقي في بيريا نحو خمسة عشر منزلاً ، يقيم فيها سكان من مستعمرة بيريا ، إذ توسعت المستعمرة لتشمل موقع القرية ، فضلاً عن أربعة منازل أخرى شبه مهجورة أو تستعمل كمستودعات ، وتشاهد بعض حجارة المنازل المهدمة في بعض حيطان المستعمرة ، ويختلط شجر اللوز القديم والتين والزيتون ، ببعض الأشجار المغروسة حديثاً وأشجار الكينا المتناثرة على التلال .

المصادر والمراجع

* كي لا ننسى قرى فلسطين التي دمرتها إسرائيل سنة 1948 وأسماء شهدائها (1997)
المؤلف : *وليد الخالدي ، مؤسسة الدراسات الفلسطينية .
*صفد في عهد الإنتداب البريطاني 1917-1948 : دراسة إجتماعية وسياسية
المؤلف : مصطفى العباسي – من سلسلة المدن الفلسطينية -5
مؤسسة الدراسات الفلسطينية .
===========================================
*د . وليد الخالدي (1925 – ) مؤرخ فلسطيني كتب بغزارة عن اللجوء الفلسطيني وحرب 1948 ، وهو أحد مؤسسي مؤسسة الدراسات الفلسطينية ، ويشغل منصب سكرتيرها العام. ولد الخالدي في القدس وتخرج من جامعة أوكسفورد في عام 1951 ، وعمل محاضراً في الدراسات السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت حتى عام 1982، ومن ثم عمل باحثاً في مركز هارڤرد للشؤون الدولية ، كما حاضر في جامعة برنستون وجامعة أوكسفورد ، وهو من مؤسسي الجمعية العلمية الملكية في عمّان، وزميل في الأكاديمية الأميركية للآداب والعلوم.

لمشاركة الرابط: