رحلتي الى هارفارد … خواطر أكاديمي إماراتي

كتب د. عبد الخالق عن لسان إحدى طالبات هارفارد: “إن هارفارد من الداخل ليست مثل هارفارد من الخارج”،
عليَّ بداية أن أسجل تقديري لروح المثابرة والتجدد التي يمتلكها د. عبدالخالق عبدالله، هذا الأكاديمي المتقاعد الذي عاد إلى قاعات التدريس بعد مضي 8 سنوات، وبحماس كبير رغم حالة “التردد اللحظية” التي عاشها عند تلقيه طلب دعوة الالتحاق بهارفارد.
ومشاعر الحماس تظهر منذ الصفحات الأولى التي يشرح من خلالها الكاتب كيف تلقى منحة كبير الزملاء في جامعة هارفارد، وهو بالتأكيد أمر يستحق الحماس، فوصول أكاديمي إماراتي وخليجي وعربي لتولي هذه المكانة المرموقة، ليست حدثاً يومياً.
قمر الجامعات
لكن الكاتب ورغم تردده بقبول الدعوة كما يذكر بلحظة وصفها “بغياب العقل”، إلا أنه استفاض لاحقاً بالتعبير عن أهمية فرصة الانضمام إلى جامعة هارفارد التي وصفها “بقمر جامعات العالم، وملكة جمال الجامعات، التي يسعى إليها آلاف الأساتذة في العالم، بل لا أحد في الدنيا يتعفف أو يرفض ارتداء وسام كبير الزملاء”.
صعود القمم
ويقارن “رحلة الوصول إلى هارفارد برحلة الصعود إلى قمة إفريست، أعلى قمة على وجه الأرض”، وهو وصف يعكس حالة التحدي والمغامرة والبحث الدائم عن الجديد التي يتمتع بها د. عبدالخالق والتي يعيشها خلال رحلات تسلّق المرتفعات التي خبرها وعاشها وما زال، وهو الرياضي العاشق لهذه المغامرات التي لا تخلو من مخاطر.
العودة إلى قاعات الدراسة
حسناً فعل د. عبد الخالق بإصراره على كتابة هذه التجربة رغم مشاغله حينها، فقد أدخلنا معه إلى أروقة الجامعة، وأعادنا إلى مقاعد الدراسة، وشغلنا بالمقارنات بين قاعات الدرس في جامعاتنا وقاعات جامعة هارفارد، وأيضاً زرنا معه مكتباتها، ومشينا برفقته في مدينة بوسطن ونجح باصطحابنا للتجوال في شوارعها وتحت أشجارها، وهي ليست جولة سياحية كالتي يقوم بها ملايين السياح، بل تجربة تزخر بالمعرفة والدهشة في مدينة قدمت للعالم عدداً كبيراً من الرواد والمخترعين إضافة لاحتضانها منارة علمية كجامعة هارفارد.
التغلب على الرهبة
واستطاع د. عبد الخالق أن ينقل لنا لحظات الرهبة التي تواجه المرء عند المحطات الفارقة خلال حياته المهنية، وهي حالة إنسانية قد يفضل البعض عدم الحديث عنها، لكنها مشاعر طبيعية يمكن أن نعيشها جميعاً،بغض النظر عن العمر والخبرة ودرجة الثقة بالنفس. وقد تحدث عنها ببساطة بالغة، وذكر لنا كيف تجاوزها وتغلب عليها، ثم كيف انخرط في مهمته الجديدة.
إعجابه الكبير بهذا الصرح الأكاديمي المرموق، دفعه للتساؤل عن نجاح دبي بل براعتها بتقديم مبادرات مبتكرة وعالية الجودة، الأمر الذي أوصلها إلى مراتب متقدمة في مؤشرات التنافسية على المستوى الإقليمي والعالمي، لكنها مازالت تفتقر إلى جامعة تستحق تصنيفاً متقدماً بين جامعات العالم، رغم احتضانها عشرات الجامعات؟ لذا دعا د. عبدالخالق إلى تأسيس جامعة بمستوى هارفارد، لأن دبي مؤهلة لذلك موضحاً: “كل ما هو مطلوب أن يكون بناء جامعة وطنية بمستوى جامعة هارفارد ضمن حلم دبي، بعد ذلك عليها السير بثقة وجرأة وتصميم وبجرعة من الطاقة الإيجابية التي تسري في كل زاوية من زوايا هذه المدينة”.
وهو طلب مشروع، بل هو واجب على كل محب لوطنه، أن يتمنى تطبيق جميع الأفكار والتجارب الناجحة في العالم في بلده الأم، ولعل من عايش تجربة صعود دبي يدرك جيداً أن هذه الإمارة الصغيرة لديها العديد من قصص النجاح المدهشة، ويمكنها فعل المزيد.
أسباب نجاح هارفارد
يذكر الكاتب أن من بين أسباب نجاح هارفارد، السياسة المالية لهذه الجامعة، والتي ترتكز على التبرع واستثمار الموارد، وقد كان مؤسسها رجل الدين البروتستانتي جون هارفارد أول المتبرعين، واليوم تبلغ محفظتها السيادية 42 مليار دولار (حتى تاريخ كتابة الكتاب)، والتي تتم إدارتها بكفاءة عالية، منذ أن تحولت إلى مؤسسة تعليمية تجارية، ويقول: “ساهمت محفظتها المالية الضخمة بتمويل مشاريعها البحثية وتقديم المنح لطلابها وتنفق بسخاء على استضافة نحو 300 باحث سنوياً من خارج الجامعة”.
الاستقلال الأكاديمي والمالي والإداري، هو سبب آخر من أسباب نجاح وتميز هارفارد، وقد حققت خطوة جريئة في طريق الاستقلال، عندما قامت بقطيعة مع هويتها الكنسية المتشددة، لتركز على هويتها العلمية الأمر الذي ساعدها على اسقطاب العقول والمواهب.
مكتبات هارفارد
ومكتبات هارفارد هي أحد أسرار هارفارد كما يؤكد الكاتب، وتخصص الجامعة لها ميزانية مفتوحة، والكتاب العربي حاضر في المكتبة، وقد أعادت هذه المكتبات د. عبدالخالق غلى أيام الدراسة: “في مكتبات هارفارد عدت مجدداً طالباً وباحثاً وقارئاً وكاتباً”، وبين أروقة هذه المكتبات ترسخت ثقته بمكانة الكتاب الورقي، وأنها لم تتراجع بل هي في مرحلة ازدهار مستمرة.
صفحات سوداء
سجل النجاحات الأكاديمية التي حققتها هارفارد، ترافق أيضاً بصفحات سوداء من العنصرية، والأمر لا يقتصر على تجنّب الجامعة قبول الطلاب من غير البيض، “بل كانت ضالعة بتجارة العبيد وتستثمر فيها”.
مقارنة لا بد منها
سياسات التمييز في هارفارد وجهت أيضاً ضد النساء حيث “انتظرت هارفارد 300 سنة لتعين أستاذة التاريخ درو فوست، كأول امرأة في هذا المنصب”، أي بالعام 2007، ومن جديد يذكرنا د. عبدالخالق أن د. فايزة الخرافي تولت منصب مديرة جامعة الكويت 1993، كما عينت الأكاديمية الإماراتية د.رفيعة غباش رئيسة لجامعة الخليج العربي في البحرين عام 2001، ويؤكد ذلك أنه يمكن لجامعات أخرى في العالم أن تكون “متقدمة في مجال ما” وأقل تزمتاً من جامعة “ليبرالية” مثل هارفارد.
الكاتب يتحدث عن المنح الدراسية المجانية التي تقدمها للطلبة الموفَّقين، ويؤكد أنها تصل الى 55% من طلبتها “الجامعة تحرص على تواجد الغني والفقير”، ويبدو أن التفوق هو المعيار الأهم لاختيار الطلبة.
من بين النقاط المهمة التي أضاء عليها الكاتب، طرق التعليم المتبعة في هارفارد، حيث يتم استقطاب علماء وباحثين وإعلاميين ومسؤولين حاليين وسابقين لفترات مختلفة للتفاعل مع الطلبة ونقل خبراتهم ضمن حلقات نقاش حرة، لكنها ليست حرية بلا حدود يؤكد الكاتب: “هناك قيود على ما يمكن قوله للطالب في القاعة الدراسية، ويمكن للطالب الذي يعبر عن نفسه بطريقة مختلفة أن يتعرض للتهميش في حال قول ما لا يتفق مع ذوق الأستاذ ويتعارض مع ما يعرف بالإجماع الهارفاردي”.
وبغض النظر عن حدود حرية النقاش، وهي بالتأكيد أوسع بكثير من المساحات المتاحة في جامعاتنا، فهي تشكل الاختبارات العملية الأولى للعلوم والأفكار التي تعلمها هؤلاء الطلبة، مع المحيط من خارج قاعات الدراسة، إضافة إلى تفاعل الأفكار نفسها وتطويرها والبناء عليها، وأيضاً بناء علاقات مباشرة مع هؤلاء الذين يشغلون مواقع مهمة.

العودة إلى “الحب الأول”

في جامعة هارفارد عاد الأكاديمي الإماراتي المتقاعد إلى “حبه الأول”، الذي ظن أنه ذهب وخمد، فقد مضى بقرار التقاعد من مهنة التدريس، دون أن يلتفت إلى الخلف لأكثر من 8 سنوات، “لم أفكر بالعودة إلى التدريس من جديد خلال سنوات التقاعد. أدرت ظهري له وأقفلت بابه ونوافذه”. إنه اختبار يمكن أن نعيشه جميعاً، حيث تختبئ مشاعرنا الحقيقية أحياناً تحت أغلفة نعتقد أنها صلبة، لتنبثق فجأة من جديد، وحتى دون إرادتنا.
عودته إلى المهنة التي يحب، جاءت بدعوة من الجامعة التي يعتبرها أعلى قمة أكاديمية، والتي استقبلته بحفاوة وسخاء، وبدوره أجابها بمديح بلا حدود: “استقبلتني هارفارد أحسن استقبال. كأنها تقول بكل حب واحترام وشوق: مرحباً بالأكاديمي الاماراتي بعدد النجوم في السماء وبعدد قطرات البحار والمحيطات”.
مديحه وحماسه لهارفارد يعكس مشاعر حقيقية ومركبة، فهي تعبر عن تقديره لهذه الجامعة العريقة، وأيضاً عن حبه الكبير للتدريس في أجواء تعليمية تحفز الطالب والمحاضر على الإبداع، لكنها أيضاً تحمل بعض المبالغة، لأن د. عبدالخالق يملك سجلاً أكاديمياً حافلاً وهو الأستاذ الجامعي لسنوات طويلة، والمحاضر في أكثر من مؤتمر وندوة على المستوى المحلي والإقليمي وأيضاً العالمي، وهو الكاتب السياسي الذي أنجز العديد من الكتب من بينها كتاب أثار الكثير من الجدل، حول الدور الجديد لدول الخليج في محيطها، بعد التحولات التي اجتاحت المنطقة خلال العقدين الماضيين (لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر)، لذا فهو يملك سيرة ذاتية مهمة، تؤهله للوصول إلى جامعات رفيعة.​​​
غياب العرب
تضمن الكتاب أيضاً، قائمة العباقرة والمشاهير الذين تخرجوا من هارفارد، من الكاتبة هيلين كيلير إلى مارك زوكربيرغ مؤسس ميتا، لكن الكاتب لم يذكر اسم أي عربي من بين هؤلاء، خاصة أن من بينهم ممن حصل على درجة الدكتوراه مثل البروفسور إدوارد سعيد، وكان من الجيد عرض أسماء العرب من بينهم الخليجيين الذين التحقوا بهذه الجامعة، وأن يكون د. عبدالخالق عبدالله من بين هذه النخبة التي ارتبط اسمها بجامعة عريقة كهارفارد.
أبناء الخليج يقدمون رؤيتهم
من بين المزايا الناجمة عن حضور د.عبدالخالق كمحاضر في هارفارد، هي فرصة قيام أحد من أبناء الخليج، بعرض وجهة نظر خليجية، حول تغييرات المنطقة العربية في العقدين الأخيرين وبروز دور الخليج في الساحة العربية، خاصة مع تراجع أدوار ما يعرف بالدول المركزية، وذلك بالاستناد الى أطروحات كتابه “لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر”، رغم ما تثيره أطروحات هذا الكتاب من جدل، لكنها تحمل أفكاراً جديدة وجريئة، وقد حان الوقت ليعرض الخليجي أفكاره وخططه عبر منصة أكاديمية مرموقة كمنصة هارفارد.
كما أن عرض تجربة صعود الإمارات على المستوى الإقليمي والعالمي، أمام طلبة هارفارد، فرصة بالغة الأهمية، فهؤلاء الطلبة هم بعض من قادة ومفكري المستقبل خاصة في الولايات المتحدة.
مجتمع أمريكي منقسم
الكتاب أيضاً يبحث مطولاً حال الولايات المتحدة عشية الانتخابات التي جاءت بترامب رئيساً، والانقسامات الكبيرة في المجتمع الأميركي، وخاصة العرقية التي تؤججها الانتخابات، ويعرض الكاتب الخلفية الاقتصادية للصراع، إضافة إلى تراجع عدد الأميركيين من أصل أوروبي أمام ارتفاع أعداد الملونين، والذي يترافق أيضاً مع تراجع الدخل المادي للبيض وبالمقابل، ارتفاع دخل بعض فئات الملونين خاصة الآسيويين.
وهي مؤشرات يمكن أن تجعل أميركا من بين دول العالم الثالث يؤكد الكاتب: “لن تكون أميركا بيضاء عرقياً، إن صحت تلك التوقعات السكانية ستصبح أميركا دولة من دول العالم الثالث”، ولكن ألا تعود عظمة أميركا وتفوقها أصلاً الى تنوعها وقدرتها على جذب العقول بغض النظر عن لون أصحابها وتصنيفهم العرقي.
هل أميركا في تراجع؟ يسأل د. عبدالخالق ويقول أميركا تتراجع على مستوى التنمية الإنسانية وهو تراجع مطلق ومستدام ويمس عناصر الحياة، لكنه ليس سياسياً أو عسكرياً أو اقتصادياً”، والسؤال: ما هي إمكانية استمرار نمو هذه الجوانب مع تراجع مؤشرات النمو البشري، أليس البشر هم العامل الرئيسي في النمو؟.
هل تبرع هارفارد بالتسويق لنفسها؟
كتب د. عبد الخالق عن لسان إحدى طالبات هارفارد: “إن هارفارد من الداخل ليست مثل هارفارد من الخارج”، صحيح أن لايمكن أن يكون مقياساً على تراجعها، لكن لا بأس من الاطلاع على مؤشرات أخرى وهنا سأذكر مؤشرين:
حضور خريجي أي جامعة في قطاع التكنولوجيا والذي تزداد سيطرته على جميع القطاعات الأخرى، والمقصود بالحضور هنا هو مساهمة هؤلاء الخريجين بتأسيس شركات التكنولوجيا الكبرى في أميركا، والمفارقة أنه عند اعتماد هذا المقياس، لا يبدو أن هارفارد تحتل الحضور الأقوى، فمن بين مؤسسي أكبر 10 شركات التقنية في الولايات المتحدة، اثنان أحدهم بيل غيتس درس في هارفارد عامين فقط، لكنه تركها ليؤسس مع زميله شركة مايكروسوفت.
والمؤشر الثاني هو أنه من بين حملة جوائز نوبل للطب خلال العشر سنوات الماضية، كان اثنان: الأول درس في جامعة ديوك وأكمل في هارفارد، والثاني تخرج من بيركلي وأصبح أستاذاً في هارفارد.

المصدر: النهار
ريم المحمود (كاتبة من سوريا مقيمة في الإمارات)

لمشاركة الرابط: