هنا الوطن … بقلم هناء حمزة

تقترب لين إبنتي مني وتهمس في أذني ونحن نهم بالرحيل من لبنان في رحلة العودة إلى دبي ” هنا فقط أشعر أن الناس تحبنا تحبنا وفقط “. ثم تتابع ” ماما السنة المقبلة أريد أن أبقى في لبنان فترة أطول .. لا أريد أن أذهب إلى تلك المخيمات الصيفية في أوروبا .. أريد أن أكون في وطني “.
أستغرب استخدام لين لكلمة وطني وهي التي ولدت في أميركا وتربت في دبي واقتصرت زياراتها للبنان إلى إجازات قصيرة كانت أطولها الإجازة الأخيرة التي امتدت لأسبوعين .
لا أخفي سراً إذا قلت أنني وخلال 16 عاماً من عمر ابنتي الوحيدة كنت أعمل وأخطط أن لا يكون لبنان “وطنا” لها خوفاً عليها من حلم لبنان وكابوسه .. ورغبة مني أن تكون أحلامها وطموحها ومستقبلها بحجم العالم فأحقق بها ما لم أحققه بنفسي.
أحضن لين بقوة وأشكرها على إلحاحها لأن يكون جزء من الإجازة في لبنان هذا العام . كنت أحتاج لأن أمضي في وطني بضعة أيام لأستعيد بعض مما فقدت بسبب تجارب قاسية خضعت لها بعلاقتي به في السنوات الأخيرة ..
صالحتني هذه الرحلة مع الوطن .. لم أعد أتوجس خوفاً في كل خطوة على أرضه . كنت أشعر بطمأنينة كبيرة .. حضن الأهل ورفاق العمر ويد وليد تشد على يدي لتعطيني جرعة قوة تخرجني من قالب الضعف الذي وضعت نفسي به في علاقتي مع لبنان..
أحمد الله وأشكره على رعايته لي ولعائلتي الصغيرة في كل محنة وعلى كل عتبة لا شك أنني أسير برعاية وحماية الله عز وجل الذي أبى الا أن أتصالح مع الوطن وأراه بعين الإبنة التي تعرف أخطاء أهلها ولكنها تقدس الأرض التي يسيرون عليها ..
تدعو لين صديقة لها تسكن في فيطرون لتمضية يوم كامل في طرابلس ، تأتي الصديقة صباح اليوم المحدد ونبداً جولة في المدينة الطيبة ، عكرة ثم السوق ثم القلعة ثم رحلة بحرية على الجزر .. كنا نسير في الأسواق ونتبادل أطراف الأحاديث مع الباعة والناس ، نضحك ونغني ونركض وحتى نرقص من دون أي حذر أو خوف.. للمرة الأولى أشعر بأنني في حضن أمي وأن طرابلس تحضنني وإبنتي وصديقتها كما تحضنني أمي .. ندخل حمام العبد.. نضحك كثيرا ونلتقط الصور نخرج منه إلى خان الصابون ثم خان الخياطين ، كل ذلك على صوت تكبيرات العيد ” لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك ” . إن الحمد والنعمة لك والملك أتمتم وأنا أشعر بحمد الله ونعمه علي في حضن مدينتي الغالية .. تنتهي الجولة الطرابلسية ونبدأ جولات سياحية تمر بالناقورة وصور والبياضة جنوباً وبيروت الحبيبة والسهر فيها الذي لا بد أن ينتهي بسندويش دجاج مع ثوم في مطعم مروش ثم فاريا ومحيطها ليكون في الشمال حصة الأسد حيث الأهل والأصدقاء والسكينة.. أمسك يد وليد من جهة ولين من جهة أريدهما أن يشاهدا لبنان بعيني .. أهلي بعيني .. أصدقائي بعيني .. ليست الزيارة الأولى لوليد للبنان طبعاً ولكنها زيارة بطعم آخر يقول ” أصبح لبنان جزءاً مني ..via Mina مسكني فيه وجباله ملجأي .. أريد أن أكتشف مناطق فيه لا تعرفينها أريد أن نكتشف معاُ وأن تزوري أمكنة في وطنك لأول مرة معي .. يقود السيارة كأنه في بلده وأجلس أنا إلى جانبه وننطلق في رحلة إلى بسكنتا .. نكتشفها معاً ونرتشف فنجان قهوة على نهرها وأحاول أن أعلم وليد شرب الماء من الإبريق مباشرة فأفشل ويفشل معي .. لا شك أنني فقدت الكثير من مهاراتي .. أضحك وأنا أصر أن يتذوق كل الفاكهة الموجودة على الطاولة ، فطعم فاكهة جبل لبنان لا يمكن أن يضاهيه طعم أية فاكهة في العالم .. نشتري كيلو إجاص من الشجرة مباشرة ونلتهم منه ما استطعنا ثم نترك الكيس في السيارة حيث يهم وليد بأخد إجاصتين معه إلى القاهرة قبل أن نسلم سيارة الإيجار لصاحبها …
كنت أضع يدي على قلبي أثناء قيادة وليد للسيارة على طرق لبنان وكان يهدىء من روعي قائلاً ” القيادة في مصر أسوأ ، وأنا مصري ، ليخفف من توتري قبل أن يصرخ ” إنقطعت فينا السيارة.. ويغني أغنية فيروز بلهجته المصرية المحبببة “إنقطعت فينا العربية” وهو يهم بركن السيارة على جانب الطريق إلى إهدن .. إتصال واحد كان كافياً أن يكون الأصدقاء معنا ويساعدونا في نقل أغراضنا إلى سياراتهم ومتابعة الرحلة معهم وكان لا شيء قد حصل.. !
تقول لين ” هيك الواحد بكون ببلده ” ..لا قيمة لكلام لين لمن يعيش في لبنان .. فالنخوة والطيبة وحضن الأهل والأصدقاء لا يقدره الا من لا يملكه .. ونحن هنا في الإغتراب نعيش “مرارة ” الإغتراب .. حيث كما تقول لين لا يسأل عنك الا من يريد منك شيئا .. أمسك يد جدتي .. تمسك لين يدها الأخرى .. نطبع قبلتين.. توصينا بالإهتمام ببعضنا بعض ” انتبهوا على حالكم ” .. نشد على يدها ونسير معاً إلى خارج المنزل .. إلى خارج طرابلس .. إلى خارج الوطن ..!
فهمت لين ما لم أفهمه أو ما حاولت جهداً أن أبعدها عنه .. تمضي لين ساعات تتحدث مع عمتي وتطالبني يومياً بان تزور عمتي .. لا أفهم السر الذي يجمعهما لكني أعرف الحب الذي يجمعهما .. يجمعني غداء العيد مع أقارب لم أرهم منذ عشرات السنين وكأني رأيتهم أمس .. لم يتغير شيء .. غير بعض الشيب ..أشعر بالطمأنينة بحضن المدينة وبحضن الوطن .. أريد مرقد عنزة في لبنان ، أقول ذلك ل وليد ونحن في المطار ، نقف مع آلاف المغادرين في الصف ، نجري معاملات السفر بغصة ودمعة محبوسة يحاول موظف الأمن أن يكسرها بمزحة أو إبتسامة… حتى هذا العسكري يعيدنا الى ذاك الحضن .
نفترق ، وليد إلى طائرة مصر ، وأنا ولين إلى طاىرة دبي ، ولأول مرة أشعر بأنني أنتمي إلى وطن أقف في مطاره ولا أريد أن أتحرك من مكاني … لم أشبع .. لم أشبع منه ” هنا فقط أشعر بأن الناس يحبوننا فقط ، هنا الطمأنينة والحضن والحب والأهل ورفاق العمر ، ولهذا إسمه الوطن .. هنا الوطن ..!
هناء حمزة
إعلامية لبنانية مقيمة في دبي

لمشاركة الرابط: