أساس بناء الوطن هو بناء الإنسان فيه، والتعليم هو أمضى سلاح للتغيير وأفضل أداة للبناء، والاستثمار بالعلم والمعرفة هو أكثر الاستثمارات إنتاجاً للمواطنة الصالحة والواعية والقادرة على القيام بالوطن. من هنا، ضرورة الحرص على كفاءة ومكانة القائمين على التعليم وبالأخص منهم من يتعاطى مع الفئات الشابة، عنيت أساتذة الجامعة كما ضرورة الحرص على الجامعة نفسها والحفاظ عليها وتعلية شأنها ومكانتها.
في لبنان للأسف الوضع معكوس . ينظر المسؤولون إلى الجامعة وكأنها صفقة خاسرة يجب التخلي عنها ونسيانها لصالح الجامعات الخاصة. فسياسة الدولة تجاه الجامعة الوطنية كانت وما زالت تنطوي على نية لتهميشها وضرب استقلاليتها عن طريق التدخلات السياسية والطائفية بشؤونها ومفاصلها، بهدف تحويلها إلى مكتب خدمات وتوظيف، وتجاهل قضاياها ومعاناتها ثم بعد ذلك وضع الملامة عليها. معاناة الجامعة مزمنة بدءاً من انتزاع صلاحيات مجلس الجامعة، إلى رصد موازنة ترقيعية لها، لا تكفي لتطوير التعليم الجامعي والقيام بمتطلباته مما يمعن في تعميق أزماتها، إلى الأبنية المتهالكة وغير الصالحة، إلى المختبرات الناقصة التجهيز والمعدات، إلى القرطاسية التي يضطر الأساتذة لدفع ثمنها وثمن تكلفة الأبحاث من جيوبهم.
معاناة الأستاذ الجامعي قبل أن يصل إلى الملاك بعد التحصيل العلمي المضني طويلة. فبعد وساطات مذلة في كثير من الأحيان، يدخل الأستاذ متعاقداً إلى الجامعة وهذا يعني أنه لا يتقاضى بدل أتعابه إلا بعد سنتين عن كل سنة يتعاقد فيها، دون أن يحصل على أية تغطية صحية أو مساعدة اجتماعية، فلا يشعر بالأمان الوظيفي والانتماء الحقيقي للجامعة. ثم بعد كثير من المعاناة، يصبح متفرغاً متعاقداً، أي خارج الملاك الوظيفي، لكنه مقابل التغطية الصحية والاجتماعية ومقابل تقاضيه راتبه الشهري، يجب أن يتفرغ كلياً للتدريس في الجامعة ويمنع عليه أي عمل آخر، وبالتالي ليس له أي مدخول مالي آخر غير ما يتقاضاه من عمله في الجامعة. وبحجة توقيف التوظيف، أقل من 1/7 من الأساتذة هم داخل الملاك الوظيفي في سياسة ممنهجة لتفريغها من الكفاءات والامعان في تهميشها.
مع كل هذه المعاناة، خريجو الجامعة اللبنانية التي هي جامعة كل فئات الطلاب، مهما كان مستواهم الاجتماعي ومهما كان انتماؤهم الحزبي والطائفي، يتفوقون على طلاب أهم جامعات العالم، لكنها تواجه بحملات كاذبة وأضاليل من المسؤولين لتشويه حقيقة مأساتها. لذلك نقول إن المواجهة مع السلطة تأخرت، والإضراب هو الوسيلة الوحيدة التي يملكها الأساتذة بوجه سلطة دفعت بقضاتها وأساتذتها وخيرة ضباطها إلى الشارع.
لقد جوبه إضراب أساتذة الجامعة اللبنانية بداية بالتجاهل التام، ورفض استقبال رابطة الأساتذة، في ازدراء للجامعة ولأهلها. ثم بدأت حملات التشويه للأساتذة ولإضرابهم، تارة بالحديث عن رواتب مضخمة يتقاضاها الأساتذة مقابل عمل قليل جداً، وطوراً حول مطالبهم التي اعتبرت غير محقة. تلا ذلك هجوم على الأساتذة بطريقة لا تليق بالمكانة التي يجب أن تحفظها الدول المتحضرة لمربي الأجيال. هذا الهجوم يزيدنا إصراراً على المواجهة لحفظ كرامتنا وكرامة الجامعة. لم يعد الإضراب مقتصراً على المطالبة بحقوق مادية بل هو سبيل لاستعادة الكرامة والمكانة.
إن الوعود التي أعطيت خلال اجتماع الوزراء مع رئيس الرابطة لا يمكن الوثوق بها. فالمشاريع المتعلقة بالجامعة نامت في أدراج المجلس النيابي لسنوات. وتجربة الجامعة مع السلطة غير مطمئنة وتجعلنا لا نثق بأي تعهد لا تتبعه خطوات عملية على الفور.
وتكمن مصلحة الطلاب في استعادة الجامعة لمكانتها ودورها ومستواها التربوي والأكاديمي، لتصبح سلطة مستقلة يحسب لها السياسيون ألف حساب، ويرفعون أيديهم عنها لتظل الحاضنة الأولى للشباب الوطني.
هلا ابو حمدان *
دكتورة في الجامعة اللبنانية
*الآراء الواردة في النص تعبر عن رأي كاتبها