لم تغادرني جريدة المستقبل عندما غادرتها قسرًا…بقلم آمنة منصور

لم تغادرني جريدة المستقبل عندما غادرتها قسرًا. كلما زرتها كنت أشعر بأنني أمرّ بين طبقاتها واجتاز ممراتها كطيف، وكنت أشبّه الأمر على سبيل النكتة بعودة طلاب ستار أكاديمي إلى الأكاديمية بعد الإستبعاد، فلا هم يشعرون بثقل مسؤولية العمل ولا أنهم من المقيمين أصحاب الحقوق والواجبات، ولكنهم يشعرون مع ذلك بغصة ممزوجة بالحنين.
كنت أشتاق إلى من عرفتهم عن قرب وإلى مكتب وسط قاعة المحليات السياسية أُزيل جهاز الكمبيوتر عنه لكني بقيت فيه بشكل أو بآخر. لذا كنت أنظر إليه مباشرةً عند وصولي قبل أن أنقل عينيّ بين الحاضرين ملقيةً التحية، فأطمئن إلى أن شيئا مني ما زال هنا، جهاز الهاتف الثابت ربما والرقم الداخلي الذي ما زال على الأوراق الملصقة على المكاتب مقرونًا بإسمي.
كنت أنسى في بعض الأحيان أنني معفية من وضع رقم وسمي ويدي لإثبات حضوري عند بدء الدوام، فأحدق بالماكينة بمرارة ثم أحيي العاملين في المكتب الخارجي الذين يبادرون إلى سؤالي عن أحوالي فأتمنى لهم الفرج القريب.. وفي الأثناء استذكر يومي الأخير الذي سبق تبلغي قرار طردي التعسفي، وكان ذاك يوم عمل في نهاية الأسبوع تتضاعف فيه المهام للتقليص المعتاد لعدد الموظفين بتوزعهم على مجموعتي السبت والأحد. هل كان هذا اليوم الأخير لي سبتًا أم أحدًا نسيت. لكنه كان مرهقًا يغلبه الخوف من المتوقع وغير المتوقع في المقبل من الأيام.
ثم يمر في خاطري ظهر الإثنين حين حضرت وعلمت بشأن التبليغات. لم ينتظر هاتفي يومها كثيرًا ليرّن فأسمع ما لم يشأ أحد أن يسمعه، ومن بعده اللقاء الخاطف مع الإدارة، الذي أعقبه بكاء كثير فرحيل على عجل..
العودة الأولى جاءت بعد يومين لأوضب أغراضي، وأودع زملائي بتماسك وتقبل أكبر لما حصل.
منذ ذلك اليوم مرّت أسابيع وبعدها أشهر ثم تلاحقت السنوات، ولم أشعر خلالها بألم الإنفصال عن الجريدة. الشوق، والغبن والحزن أكيد. لكن الجريدة ما زالت موجودة ومعها الرسم اليومي للصفحات الذي يشي عن بعد ببصمات من عملوا عليها كلهم، وعليه كان بإمكاني استعادة المشهدية اليومية من خلالها.
بعد دقائق ينتهي العمل فعليًا في الجريدة. النقطة الأخيرة في العدد الأخير لن يعقبها حرف. المستقبل تصبح ماضيًا. ماضينا جميعًا، ماضي البيت الكبير الذي لم يعد بمقدورنا زيارته والعائلة الممتدة على مساحة الوطن، والتي لن يكون من السهل لقاء أفرادها جميعًا.
للبعض هي مسألة صحافة ورقية ومصيرها الآفل، بالنسبة إلى من عاشوا المستقبل وعايشوها هي ذاكرة أناس رحلوا عن هذه الدنيا وآخرين صاروا جزءًا من زمن لن يعود.
آمنة منصور*
صحافية لبنانية

لمشاركة الرابط: