حين استراحت الطائرة على أرض مطار محافظة العلا في المملكة العربية السعودية، التي تقل الضيوف اللبنانيين الذين تمت دعوتهم من قبل السفير السعودي في لبنان وليد البخاري، بناء على ترحيب خاص من وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله آل سعود، بهدف المشاركة في مهرجانات طنطورة الثقافية والتعرف على منطقة عربية تحمل عبق التاريخ الذي لاح لي من شعاعات الشمس الدافئة، التي أمهلت المطر، كي لا يتحرش بفرح الهنيهات التي تنتظرنا في تلك البقعة الرائعة من ديار المملكة والتي نزورها للمرة الأولى.
توزع الوفد المكون من رسميين وأدباء وإعلاميين وفنانين على طائرتين تابعتين للهيئة الملكية التي استنفرت كامل موظفيها من أجل الإشراف على تأمين هناءة الزوار بحرص شديد على القيام بواجب الضيافة العربية التي ما زالت تشع في تلك الديار ، بكل أطايب النبل والكرم الحاتمي والانتباه المتيقظ لكل شاردة وواردة، من أجل تسهيل كل الأمور العائدة لمسار تلك الرحلة المعرفية والتاريخية والثقافية المتخمة بالتراث والحضارة.
السيارات جاهزة تسير بانتظام الواحدة خلف الأخرى دون أي تزاحم، بل بأدب جم، يقودها رجال عاهدوا دولتهم على أن يكونوا خير من يمثل السياحة وحسن استقبال الضيوف، في وطن ما زالت السياحة فيه تتدرج نحو الظهور المعلن رسميا بخفر، بالرغم من أنها تملك ثروات سياحية لا يستهان بها.
وقفت عيني للحظات تراقب المشهد وأنا أنزل سلم الطائرة ، وبت أسائل نفسي أي درب سأسلك وأنا أنفض غبار الزمن عن ذاكرتي لأخطها على صفحات التاريخ في هذه المنطقة المشبعة بأدواره وعصوره الواقفة بصلابة فوق رمال الصحراء ، تدعونا لاستعادة كل ما حفظناه في الكتب عن تاريخ النبي صالح ومدائنه، ومملكة الأنباط وسكة حديد الحجاز، وكلها محروسة من تلك الجبال المنحوتة بإزميل نحات عظيم هو خالق الكون الذي قال لها كوني فكانت قبلة للناظرين وأعجوبة الدهور في تلك الصحراء، التي غصنا في رمالها الذهبية غير آبهين بما يندس في أحذيتنا من حبيباتها التي داستها قدما النبي صالح وناقته العجائبية.
للحظات ، انتبهت ليد تمتد الي تساعدني على إنزال شنطتي التي رافقتني، وأثقلتها ببعض دواويني الشعرية التي لم أتمكن من توزيعها بسبب كثافة البرنامج المقتصر على يوم واحد فقط ، كانت اليد المساعدة يد السفير النبيل وليد البخاري ابن المحتد الأصيل ، يساعدني بلطف ما عرفته من صاحب مقام في بلادي ، لكن ما لبث تعجبي وارتباكي بالانخفاض، حين بدأ المستقبلون يحيطوننا برعايتهم، بأدب جم وتهذيب راق، جعلني ألتزم الصمت كي أستمد من هذا الشعب الخلوق هناءة الهدوء الذي هم عليه واللباقة التي يتحلون بها.
المسافة من المطار إلى مدائن صالح ليست قصيرة، بدأناها بزيارة محطة سكة الحجاز التي أسست في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني حين بدأ العمل بها العام 1900م وتم افتتاحها في العام 1908م وذلك لتسهيل أمور الحجاج الذين كانت تستغرق رحلتهم إلى مكة المكرمة أربعين يوما فاختصرت إلى خمسة أيام عبر رحلة القطار المستحدثة.
لكن بالرغم من تدمير تلك المحطة في الحرب العالمية الأولى مع ما رافقها من سقوط الدولة العثمانية ، عمدت الجهات المختصة في المملكة العربية السعودية إلى إعادة ترميم هذه المحطة الشاهدة على عصر مضى ، عبر تأهيل الخط الحديدي في تلك المنطقة ووضع القطار الحديدي بقاطراته وحاوياته وعرباته على السكة التي تم ترميمها كي يبقى حقيقة ظاهرة للعيان ، كما تم ترميم المباني بما تحويه من استراحات ومساكن ومكاتب وتم تحويل بعضها إلى متحف يحوي كل ما يشير إلى تاريخ مضى، لم تطمسه الدوائر المختصة في المملكة بل أظهرته بالشكل التاريخي الحضاري، الذي قرأناه في كتب التاريخ ،خصوصا وأن صورة السلطان عبد الحميد الثاني العثماني ما زالت حاضرة للعيان على بوسترات خاصة ، تشهد على ما قام به من أجل رعيته، وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على حرص المسؤولين في المملكة على السرد التاريخي كما حصل ، وليس من منطلق أهواء تتشابك مع التحولات السياسية النافرة أحيانا ، وهنا علينا أن نشهد ونبصم لعظمة وأخلاقية من يحفظ التاريخ من رمادية العقول.
بعدها انطلقنا بالسيارات إلى منطقة الحجر حيث مدائن صالح، التي هي عبارة عن مدافن استعملها الأنباط إبان حكمهم كقبور للأثرياء وساداتهم ومسؤوليهم ، وقد نحتوها في الجبال الصخرية الواقفة على حفافي التاريخ في تلك المنطقة الصحراوية التي حضنتها مملكة عربية قديمة هي مملكة الأنباط وهم من قبائل عربية بدوية في القرن الرابع قبل الميلاد وصولا إلى العام 106 م تاريخ اندحار مملكتهم على يد الرومان، تلك المملكة التي كانت محطة استراتيجية للقوافل على طريق البخور.
تسلقنا الصخر من أجل التعرف على ما سمي بالقصر الفريد، وهو عبارة عن قبرواسع سمي الفريد لإنفراده عن باقي المدافن المنحوتة في الصخر، بكتلة صخرية واحدة، ضخمة ومنفردة، مستقلة بواجهة كبيرة وموقع مميز.
يبلغ عدد المدافن 131 مدفنا وهي آثار ثمودية ولحيانية ونبطية، كما أبلغنا الدليل السياحي والصبايا المرافقات من الهيئة الملكية العليا ، أما الأهمية التراثية التاريخية لمدائن صالح فهي المسألة الدينية التي ورد ذكرها في القرآن الكريم عن قوم عاد وثمود والنبي صالح ورفض قبيلته دعوته لعبادة الله وترك عبادة الأصنام كما جاء في القرآن الكريم/ سورة الحجرالآية 80: „ ولقد كذب أصحاب الحجر المرسلين” ثم في الآية 81:” وأتيناهم آياتنا فكانوا عنها معرضين” ، وطلبوا منه معجزة لتصديق دعوته الإلهية، فأخرج له الله من صخرة صماء ناقة ومعها ولدها ، لكنهم اتهموه بأنه مسحور وعقروا الناقة وهرب ولدها الفصيل واختبأ في صخرة تدعى الحويره قرب جبل الحوار، وتطول حكاية النبي صالح وتلك المدائن التي سميت بإسمه ، الشاهدة على مرحلة مهمة من التاريخ الديني الذي يؤمن به كل مسلم استنادا لما ورد في العديد من السور القرآنية.
بالمختصر هي منطقة مثقلة بعبق التاريخ الديني والسياسي والتراثي، وقد ورد ذكر سكانها، في القرآن الكريم في سورة الحجر في الآية رقم 82 : وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين. هنا انتهت رحلتنا في هذه المنطقة العابقة ببخور التاريخ والتراث وتوجهنا إلى حيث ننعم باستراحة غداء تلتها استراحة في الفندق استعدادا لحضور حفل الفنانة العظيمة ماجده الرومي.
وكان اللقاء في عشية تلك المنطقة الرائعة الممتدة بساط ذهبي اللون، يلف صمت الليل بالنغم، ,وعلى مسافة ليست بالقصيرة، امتدت لساعة في السيارة ، علما أن لا ازدحام للسير في منطقة انبسطت طرقاتها بشكل هندسي رائع، حيث لا حفر ولا من معوقات مرورية، ووجهتنا قاعة المرايا الضخمة التي أقيمت خصيصا من أجل احتفالات مهرجانات طنطورة الثقافية ، التي تقام لأول مرة ويفتتح بها الموسم السياحي والثقافي لمحافظة العلا الحاضنة لتاريخ، تم تثبيته على صحائف المجد التليد، مرايا تعكس أهمية تلك الديار التي منحها رب العالمين بركاته ومراح عدد من أنبيائه، الذين ما زالت حكاياتهم تقرأ في كتاب الله المنزل على أمة الإسلام، عنيت القرآن الكريم.
وصلنا مسرح المرايا الضخم لحضور المهرجان الفني الذي تحييه في تللك الليلة الفنانة الكبيرة ماجدة الرومي ، والممتد على وساعة ترحيب من وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله آل سعود، الذي رحب بالوفد اللبناني أحسن ترحيب ، مهتما بالسلام على كل أعضاء الوفد ، وما لفتني حين قدمت له نفسي بموقعي الثقافي وعملي السياحي حتى فاجأني بالقول: نحتاج خبرتك ولا بد من التعاون معك.. هذا الكلام لم أسمعه من وزير السياحة اللبناني المرافق للوفد الذي ألقيت عليه التحية قائلة : نحن نتهيأ لعقد ملتقى المبدعات العربيات ومن الواجب علي كوني خدمت في وزارة السياحة مدة طويلة ألا أنسى بيتي الثاني الذي هو وزارة السياحة..لكن جوابه كان سلبيا، وهنا لا بد من المقارنة التي أكدت لي مقولة : لا نبي في قومه.
بعدها دخلنا المسرح المكتظ بالحضور، والمجهز بأحدث الديكورات وتقنيات التكنولوجيا الصوتية والضوئية والمسور بتلك الجبال الصخرية المنحوتة بقدرة قادر والواقفة على حدود المساحات الممتدة وسع النظر تحاكي الزمن وتسرد مجريات عصورها بصمت الواثق من عظمته وصلابته، حيث صدحت ماجدة الرومي بصوتها الملائكي لتنقلنا إلى عالم الطرب الملتزم بالأصالة، أصالة الكلمة واللحن والنوتة الموسيقية المعبرة. فأطربت الحضور ولم يمنعنا الإصغاء لترانيم صوتها الملائكي من مرافقتها بالتصفيق الحاد بالرغم من ارتباكها بعض الشيء في البداية، الذي أفصحت عنه ونالت صراحتها استحسان الحضور.
بعد هذه الرحلة الحدث التي مرت في حياتي المتعبة من هموم وطني ، والتي تمنيتها ممتدة لفترة أطول ، لا بد من القول: هناك وقفت عيناي على حدود العصور المتقلبة ، كي ترفع غشاوة الزمن وتقلباته العاصية على الفهم، هناك وجدت نفسي بحاجة إلى الصراخ في وجه كل من قبض على أعمارنا وأتلفها.. ورماها في غرف الإنتظار.. بانتظار قيامة لبنان.. مع كل هذا لن نمل من انتظار دعوات مماثلة نصدح فيها بالشعر بين تللك المطارح المجللة بعبق المجد والتراث والتاريخ.
شكرا للسفير وليد البخاري المثقف والمتنور ، الذي لم يتركنا ولو للحظة من مطار بيروت الدولي حتى وصولنا ألى محافظة العلا والعودة إلى بيروت والذي منحنا هذه الفرصة التي ستطبع في ذاكرتنا أجمل الصور، كما الشكر لكل من استقبلنا بحفاوة ولباقة خصوصا صبايا وشباب الهيئة الملكية العليا.
الدكتورة سلوى الأمين *
أديبة وكاتبة لبنانية
ورئيسة ديوان أهل القلم
شو بخبرك عن بيت من لبنان !
يقول الفنان وديع الصافي في رائعة من أجمل أغانيه ” بيتي ما برضى يسيب بيتي أنا سلاحو .. ما بتركو للديب ولا بعير مفتاحو” من المؤسف القول أن بيوت العديد من اللبنانيين اليوم “تركت للديب” وضاعت مفاتيحها … وما أدراك ماذا فعل بها ” الديب” ؟ يعرف البيت اللبناني الأصيل ليس من حجارته المقصوبة فحسب
Read More