في لحظة حرجة من تاريخ لبنان، وبينما تتطلّع شريحة واسعة من اللبنانيين إلى حكومة قادرة على اتخاذ قرارات سيادية، انسحب وزراء “الثنائي الشيعي” من جلسة مجلس الوزراء التي اتُّخذ فيها قرار بالغ الحساسية، بدا وكأنه يهدد التوازن الهش بين الدولة والدويلة.
انسحبوا لأنهم خافوا، لا على لبنان، بل من جمهورهم. من “البيئة”، من “الشارع”، من الصوت المرتفع الآتي من خارج قاعة مجلس الوزراء. خافوا من أن يُقال عنهم إنهم تخلّوا عن “ثوابت الطائفة”، ولم يخافوا من أن يُقال إنهم تخلّوا عن مسؤوليتهم في لحظة مصيرية.
القرار الذي اتُّخذ – والذي تمحور حول تكليف الجيش بملف أمني أو ميداني – لم يُهضم. ليس لأن مضمونه مرفوض تقنيًا، بل لأن رمزيته تمسّ توازنًا غير معلن: الجيش ليس محلّ ثقة كاملة، حتى لو كان “الجيش اللبناني”. القرار تمسّك بالدولة، فيما الانسحاب كرّس منطق الدويلة.
وزراء يفترض أنهم شركاء في اتخاذ القرار، انسحبوا منه لأنه لم يُصَغ كما يشاؤون. رفضوا أن يكونوا أقلية في التصويت، فاختاروا الانسحاب لا المواجهة. سحبوا كراسيهم من الجلسة، وتركوا وراءهم فراغًا سياسيًا لا يمكن تبريره إلا بمنطق التخويف: إما أن تسير الدولة وفق شروطنا، أو ننسحب منها، حتى لو جزئيًا.
اللافت أن هذا الانسحاب لم يكن عن قناعة تقنية أو اعتراض مدني، بل موقفًا سياسيًا بامتياز، موجّهًا إلى جمهورهم أولًا، وإلى خصومهم ثانيًا، وإلى الدولة ثالثًا: لا نثق بكم. لا نثق بالمؤسسات إذا لم تكن في قبضتنا. لا نثق حتى بالجيش إن لم يكن مُدارًا من خارج الدولة.
هذا السلوك، وإن لبس قناع “الحق في الاعتراض”، يعكس انعدام الحد الأدنى من الالتزام الوطني. فلو أن كل فريق انسحب من كل جلسة لا تُعجبه قراراتها، لما بقي مجلس وزراء ولا دولة. الاعتراض يكون من داخل المؤسسات، لا بالانسحاب منها كلما ارتُكبت “جريمة” اتخاذ قرار سيادي.
المفارقة أن الحكومة، برئاسة نواف سلام، لم تذهب إلى مواجهة، بل إلى ممارسة بديهية: الجيش هو مرجعية أمنية. لكن حتى هذا، بات “تهديدًا” في عُرف من يرى في السلاح غير الشرعي ضمانة، وفي الطائفة ملاذًا، وفي الدولة خصمًا.
اختاروا الاصطفاف مع الدويلة، لا مع الدولة. مع الحسابات الطائفية، لا مع الحساب الوطني. مع الخوف من جمهورهم، لا الخوف على وطنهم.
انسحبوا من الجلسة، نعم. ولكن هل انسحبوا من مسؤوليتهم؟ من شراكتهم في القرار؟ من فكرة الدولة؟
الأسئلة مفتوحة، والجواب واحد: لا دولة تُبنى بهذا المنطق
إكرام صعب [email protected]







