
أمضيت ليلة في شبعا، امتزج فيها الشعور ما بين الحنين العميق لما قبل الحرب، وما بين ذلك الإحساس الغريب بالجلوس على مقربة من ركامها… منازلها المتناثرة كأشلاء ذاكرة لم تشفَ بعد، وأحجارها التي كانت جدراناً دافئة ذات يوم، صارت اليوم شواهد صامتة على الغياب الطويل.
لا انكر أني شعرتُ بخوفٍ شديد حين دوّى صوتُ قذيفةٍ أطلقتها إسرائيل فجأة. كانت تراقب كل حركة في شبعا، فراحت تُرهب راعي ماشية اقترب من موقع المرصد في أعالي الجبل، لتخيفه وتعيده إلى حدود المنازل الدافئة في حضن جبل الشيخ. ذلك الصوت اخترق سكون هدوء النفس أول وصولها الى شبعا ، وأوجع أحاسيسي. لم يكن مجرد صوت قذيفة، بل كأنه حمل في داخله كل أصوات الغارات التي مرّت فوق هذه البلدة، كل الانفجارات التي مزّقت أيامها، كل الرعب الذي خبأه أهلها في قلوبهم كي تستمر الحياة. لحظتها، شعرتُ وكأن شبعا كلّها تصرخ في داخلي
إنها ليلة لم تكن كباقي الليالي، فيها خليط مؤلم من المشاعر والأحاسيس. بين صدى أحاديث غائبة تعود مع الريح، ورائحة الشيح والحطب التي تشعل في القلب ناراً من الحنين، وبين شعورٍ آخر، كأنك تحاول احتضان ماضٍ مكسور وسط حاضرٍ مرتبك لا يُشبهه.
في شبعا، تشعر أن الحنان الذي تفقده في أي مكان آخر، ما زال محفوظًا هنا. ليس فقط في وجوه الأمهات ومناديلهن المطرّزة بالانتظار، ولا في مراييل المطابخ المشبعة برائحة المردكوش والحبق بل حتى في طرقة عكاز الشيوخ وهم تمشون على طرق لم تعد ممهدة، تشق دربها نحو الأيام.
شبعا، تلك البلدة التي لا تعرف التفرقة، حيث كل البيوت متجاورة، والمدافن كذلك… كلٌّ فيها للكل، وكأنها تقول لك: “نحن لا ننسى من نحن، ولو غاب عنا كل شيء.”
ما أقسى أن ترى الغصة في عيون أهلها حين يُذكر الخراب، أو حين تَعرض شاشات التواصل صراعات لا تشبه روح شبعا… مناقشات عقيمة، ساذجة أحيانًا، تزيد من أوجاع البلدة ولا تُرممها. فالأوجع ليس فقط في الركام، بل في انعدام الشعور بالمسؤولية، في تناقل التهم والشتات بدلًا من الوحدة والتكافل.
هي شبعا، بنكهة ورق الجوز، والشيح الأصفر الذي يزنّر حدودها، والورديّ الذي يُطرّز صباحاتها، وعبق مخابزها ” وأرضياتها” الذي يُشبه ضحكة جدّة تُعدّ لك الخبز على الصاج و” أرئور اللبنة” وتدسّ فيه كل الحبّ المتبقي في قلبها.
كم من الأسئلة حملتها تلك الليلة…
لماذا كل هذا الحبّ لهذه الأرض لماذا كل هذا التعلّق بشبعا؟
ربما لأنه لا شيء فيها يناديك إلا الصدق. لا شيء يُجبرك على أن تحبها، لكنك تفعل، دون أن تفهم كيف.
وربما لأنك، حين تغادرها،تذرف دموعك ، تشعر أنك تركت خلفك شيئًا منك، لا يعود.
لكل من انتمى إلى هذه البلدة…أكملوا عني الحكاية،لكن لا تفرّطوا بما تبقّى منها
إكرام صعب [email protected]