القهوة عالنار..

غالباً ما أسرح في بحر الذكريات فأغوص في أعماق تلك الأيام الخوالي الجميلة الصافية في مدينة طرابلس-الفيحاء ، فتراني أتوقف عند أدراج مبانيها الحنونة المتمثلة في بساطة العيش والألفة وراحة البال وصفاء النفس، هناك كنت أخال نفسي ألعب مع اولاد الجيران ، أخيط للعبتي ثوبها ونعيره بعد الانتهاء منه لكل لعبة من لعبنا نحن بنات الجيران .
يجذبني الحنين إلى ذاك الماضي و بقوة، يوم كانت الحياة فيه تسير ببساطتها، حياة يحيط بها الهدوء رغم رصاص القنص ، وتسودها المودة والمحبة الصادقة و الأخلاق الحميدة وكل ماهو طيب رغم مرارة حرب الشوارع .
وأنا..
أسرح اليوم في بحر الذكريات هذه، لأتذكر التعامل الودي بين الجيران نعم الجيران وهو مصطلح لم يعد في قاموس المجتمع !!
فهم ووفق المسمى الحقيقي للغة جيران ..ومصدره فعل جاور .
الجيران في الواقع كانوا بمثابة الأهل ـ لا بل الأقرباء وكل شيء قريب ليس بالمسافة فحسب الى الانسان بل بالنمط والتفكير وطعم العيش وكل ما يعرفه طفل الأجيال الماضية في سنواته الأولى من عمره .
مصطلح ، لا بل نمط حياة لم يعرفها اليوم جيل “الأيباد” و لا جيل “الفيسبوك” وما يعرف بوسائل التواصل التي هي في الحقيقة وسائل صامتة ومخادعة غالباً.
هم جيران الحي أو جيران المبنى السكني وإذا صح التعبير هم الأخوة والأهل الذي قُدر لهم أن يتجاوروا في المبنى نفسه ، كل يوم طبخة وكل بيت تختلف طبخته عن البيت الاخر ليكون الطبخ في الغد متبادلا وهكذا دواليك .
“ما عنا قهوة” يلا بسرعة عند أم فلان سلمي عليها وقوليها بدنا نستقرض فنجان بن عنا ضيوف من المبنى المجاور وتعي سهري معنا ” الهم واحد و لقمة العيش واحدة الفرح واحد وكذلك الحزن ، كانت الأبواب تُفتح لإستقبال من قرع باب بيت جيرانه ولم يجد أصحاب البيت فيه . وكانت الحلول مشتركة ، “عندِك نزلة على السوق ؟ تركي الطبخة على النار و الاولاد نايمين والمفتاح عندي لا تعتلي هم وأنا بنشر الغسيلات” هي علاقة اقرب منها الى الاخوة أو أكثر لدرجة أنك اليوم وفي زمن الفيسبوك فيما لو صادفت أحد ابناء أو بنات الجيران تطير من الفرحة وكأنك عثرت على كنز ٍ هو الأخ الذي ابتعدت عنه لسبب جغرافي ما ..أو بسبب حرب لئيمة ولم تستطع طوال الفترة أن تنساه .
لم تعد الحياة كما كانت عليه أيام زمان، فبعد الإستغناء عن سكر وملح ونعناع الجيران، وعن صينية القهوة “المزدانة بعشرات الفناجين” تغير الحال وساءت الأحوال.
في الأعياد كنا أول من نبارك لهم العيد هم جيران الحي، وفي مناسبات الأفراح كان أول من يدعى هم جيران الحي قبل الأقرباء، وفي الأتراح أيضا هم أول من يهب للمواساة.
كل شيء تغير غيرته تطورات وحداثة التكنولوجيا ومن لم يلحق بهذه الاخيرة غيرته “صناديق لجان المباني” وما خلفتها هذه ايضاً من حقد وشرخ وانقسامات فاقت انقسامات زمن السياسيين والسياسات الرديئة !
أكتب اليوم عن الجيران ربما تشهد في الغد كلماتي هذه أمام الأجيال الذين حرموا نعمة تواصل الجيران وعشرة ابناء الجيران وفرحة رقصاتهم على اأغانيهم وأهازيجهم على أدراج المباني وفي ساحاتها وقفزات حبالهم ولعبهم ورسومات طباشيرهم وحتى قطف زهور حدائقهم لتحتفل بأعياد ميلادهم .
أكتب خربشاتي علها تبقى تؤرخ بين مفاتيح أرشيف “غوغل ” أو غيره من مواقع البحث الشهيرة وكلي رجاء أن تقع صدفة بين أيدي أبناء الجيل الجديد علهم يعيشون بين كلماتها روعة وحلاوة عشرة الجيران و أبناء الحي الواحد .
وينك يا جار ؟ لم تعد صينية القهوة تحمل عشرات الفناجين ولا حتى ركوة كبيرة بات الأمر يقتصر إما على فنجان وحيد او حتى على “ماكينة الاسبريسو ”
إنتهى عصر الجيران لينتهي معه زمن الغيرة والإلفة والتواصل المباشر وكل إحساس جميل وملموس انتهى ، وحلت مكانه صفحة الكترونية تصلكم اليوم كلماتي عبرها تحمل صورة شخصية صامتة أومشاركة بصورة فنجان قهوة وعبارات الغيرة والحسد وربما مشاعروحكايا مزيفة !!
“شرفنا عالصبحية القهوة عالنار عم ساويها بإيدي”
وينك يا جار؟
إكرام صعب
[email protected]

لمشاركة الرابط: