تبدو الطبقة السياسية اللبنانية الحاكمة (والمتناحرة في آن) أقل قلقاً على مستقبلها القريب مما كانت عليه قبل عدة أشهر، لماذا؟
بعد أشهر عصيبة من الحراك الشعبي، إستكانت الأمور نسبياً، ودخلت البلاد في غرفة انتظار قسم العمليات الجراحية التي يختلف الأطباء الجراحون المحليون والدوليون فيها حول خيارات فتح الرأس أم الصدر.. أو الإكتفاء بالقدمين!
في السياسة، يطول الحديث ويتشعب ويتدوّل من واشنطن إلى باريس مروراً بطهران، لكن ما هي العوامل الإقتصادية والإجتماعية الحامية للنظام نسبياً في هذه المرحلة القصيرة الفاصلة بين النزيف والجراحة؟
أولاً، إنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي سارع الى محاولة سد فراغ الاهتمام الدولي بلبنان، وقدم مبادرة يتمسك الجميع بأهدابها طمعاً بكسب الوقت، واعتقاداً منهم بأن صندوق المساعدات والقروض سيفتح من جديد مع إصلاحات طفيفة يتجدد معها “شباب” تلك الطبقة التي أدمنت الشحاذة ورهن مستقبل الأجيال بخطوط ائتمان وهبات ومنح تشكل شريان حياة لها ولحكمها منذ اتفاق الطائف. وبرغم تعثر المبادرة الفرنسية، فان ماكرون أعاد تزييتها بإرسال مستشاره لشؤون الشرق الأدنى باتريك دوريل إلى بيروت ومعه دعوة متجددة للإنضواء تحت سقف المبادرة إذا أراد لبنان أن يستفيد من زخمها السياسي والإقتصادي..
ثانياً، إنه حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الذي يراهن أهل السلطة على “عبقرية هندساته” لتطويل أمد دعم المحروقات والأدوية والطحين وبعض السلع الغذائية الأخرى مع إمكان استخدام جزء من الإحتياطي الإلزامي البالغ 17.5 مليار دولار، وضبط ايقاع هبوط سعر صرف الليرة وتهدئة الأسواق قليلاً بين الفينة والأخرى بإنتظار حل سياسي مرحلي ما يمنح النظام جرعة أوكسيجين كي لا يختنق كلياً.
في هذا السياق، إتخذ “المهندس” جملة إجراءات نقدية جعلت سعر الصرف في هذه الآونة متقلباً بشكل هامشي، ما قد يمنح المتعاملين قدرة على التخطيط انفاقاً واستثماراً بالحدود الدنيا التي تبقي الحركة بعجلة دوران غير مختنقة بإنتظار الحلول الأخرى لا سيما السياسية منها. وما تصريح سلامة الأخير إلا في سياق تطميني مرحلي واعداً بآليات إضافية تسهم في تماسك القدرة الشرائية لليرة، ومرسلاً إشارة (تخديرية ـ تحذيرية معاً) إلى إن في بيوت اللبنانيين 10 مليارات دولار (كاش)، وأن المشكلة عند المصارف التي عليها زيادة رساميلها لإعادة تكوين التزاماتها تجاه المودعين. وقال حرفياً: “مصرف لبنان يقوم بعمله بطريقة مهنية ولبنان غير مفلس”!
ثالثاً، إنه الذهب الذي يملكه لبنان، وتقدر قيمته حالياً بنحو 18 مليار دولار، لم يعد من المحظورات الحديث عنه وعن إمكانية استخدامه لشراء بعض الوقت أيضاً عندما تحتدم الأمور (في أزمة مصيرية حتمية حسب تعبير سلامة) قرب الحد الفاصل بين الجوع أو البقاء على قيد رمق الحياة بمصل إضافي أخير الى حين، علماً أن هذا الخيار يحتاج إلى إجماع وطني يترجم في مجلس النواب.
رابعاً، إنه الرهان على الخصخصة التي وردت بأشكال مختلفة في معظم أوراق الحلول حتى المتناقضة منها من أقصى اليمين الى أقصى اليسار . فما من فريق سياسي يرفض بيع مرافق عامة بالمطلق، بدليل أن الورقة “الإصلاحية” التي قدمها الرئيس سعد الحريري قبيل استقالته نهاية العام الماضي، والتي تضمنت شيئاً من هذا القبيل، لم يعترض عليها أقصى يسار السلطة المتمثل بحزب الله الذي رحّب آنذاك بالورقة ودعا الى التمسك بها أساساً للحلول!
خامساً، إنخفضت إحتياجات اللبنانيين بنسبة 50 في المائة على الأقل بعدما خفضوا (قسراً وطوعاً) مستوى معيشتهم ، إذ لم يعد في بنود انفاق أكثر من ثلثي السكان على الكماليات إلا النزر اليسير المنعدم ، وبالتالي انخفضت الحاجة الى الدولارات كثيراً بعدما هبط الاستيراد بنسبة زادت على 50 في المائة. أما العملة الصعبة المتبقية في مصرف لبنان، وبرغم قلتها وتناقصها المستمر، فيمكن تمديد أمد الرهان عليها لشراء الوقت بأشهر أو ربما بسنة إذا استخدم الإحتياطي الإلزامي جزئياً.
سادساً، على الصعيد التجاري أيضاً، توفرت في الأسواق بدائل “وطنية” لعدد لا بأس به من السلع الأساسية والجارية ، أي أن رب ضارة نافعة على طريق إجراء تحول ما في النموذج الإقتصادي اللبناني القائم على الوساطة والخدمات والمصارف والعقار والضيافة والإستيراد.. بإتجاه اقتصاد منتج أكثر. ويذكر، في السياق الإنتاجي، أن لبنانيين عادوا الى شغل مهن بسيطة بعدما كانوا فروا منها طيلة عقدين من الزمن وتركوها للعمالة الأجنبية.
وهذه العودة الميمونة تؤكدها بعض شركات النظافة وجمع النفايات والحراسة والأمن والزراعة والصناعة. وعلى صعيد العمالة الوطنية أيضاً ، فان الطبقة الحاكمة ستستمر(ولو بشكل غير مباشر) في تشجيع هجرة الماهرين والمتعلمين كما فعلت منذ ما بعد الطائف، لأن هولاء “نفط لبنان ” المدر للتحويلات التي تشكل الوريد الأساسي لقلب النظام.
سابعاً، أكدت إحصاءات غير رسمية أن الداخل الى لبنان من دولارات طازجة مع المسافرين في حقائبهم يراوح بين 4 و10 ملايين دولار يومياً حسب المواسم، تذهب الى استخدامات مختلفة أبرزها إعالة الأهالي والأقارب في هذه الظروف الصعبة، فيزداد إمكان الصبر والتكيف الإجتماعي العام مع انخفاض القيمة الحقيقية للأجور بالليرة المتهاودة أسعارها أمام الدولار، فضلاً عن المال السياسي مثل أموال حزب الله المقدرة أميركياً بنحو مليوني دولار يومياً.
الى ذلك، وبرغم شبه انقطاع المساعدات والقروض الخارجية للدولة والقطاع العام بإنتظار الإصلاحات، فان أموالاً طازجة تدخل لتمويل منظمات غير حكومية انتشرت مثل الفطر منذ اندلاع حراك 17 تشرين/أكتوبر، وبات عددها بالمئات، بعضها طفيلي مقابل آخر فعال برز دوره الإيجابي في ترميم منازل تضررت من انفجار المرفأ، وما تزال تعمل حتى يومنا هذا، على سبيل المثال لا الحصر.
ثامناً، لدى معظم أهل السلطة تجارب في كيفية “إدارة الفقر” منذ زمن الحرب الأهلية أو بعدها في ممارسات شراء الولاءات الانتخابية، بتوزيعات عينية يبدو ان معظم الأحزاب استعدت لها تحت شعار “ممنوع أن تجوع جماعتي”، أي طائفة الزعيم (للأسف، ليس الشعار ممنوع جوع أي لبناني).
تاسعاً، لم ينقطع دفع الرواتب ولن ينقطع قريباً مع طول حبل طبع العملة، ليبلغ النقد المتداول 24 الف مليار ليرة حالياً بعدما كان نحو 10 آلاف مليار في بداية العام 2020. وبرغم تسجيل التضخم ارتفاعاً بنسبة 120 في المائة، بسبب الافراط في الطبع، إلا أن بنوداً أساسية من ميزانية الأسرة لم ترتفع أسعارها كثيراً مثل الكهرباء والنقل والإتصالات والصحة، بالإضافة الى عدد من السلع الغذائية التي استفادت من الدعم النسبي. وعلى صعيد متصل، تحولت شرائح من اللبنانيين عن الإنفاق على خدمات خاصة إلى أخرى عامة في التعليم والصحة التي تنخفض كلفتها بشكل كبير قياساً بخدمات القطاع الخاص في هذين البندين الأساسيين.
عاشراً، إنه التعويل على عودة وشيكة لإقتناص فرص عقارية إنخفضت أسعارها 50 في المائة في سنتين، وعلى نشاط الحركة السياحية إذا هدأت جائحة كورونا، بعدما تراجعت الكلفة في لبنان الى مستويات قريبة من القاهرة ودمشق وربما صنعاء بفعل انخفاض سعر صرف الليرة 80 في المائة، وانفجار الفقاعة العقارية لتعود الأسعار (بالدولار الطازج) الى مستويات ما قبل 2008، وهبوط كلفة الفنادق والمطاعم بشكل كبير أمام السائح المحتمل والمغترب اللبناني العائد الى بلده في زيارة أو سياحة. فعشية الإنهيار كانت بيروت أغلى مدينة في الشرق الاوسط بالنسبة لموظفي الشركات متعددة الجنسيات وفي المرتبة السابعة عالمياً، وفق المسح السنوي الصادر عن “يورو كوست إنترناشيونال”، وهي حالياً أرخص من دبي والكويت والمنامة بكثير وفقاً للمؤشر نفسه.
النظام الطائفي محبط للثورة
تضاف إلى العوامل الإقتصادية التي تراهن السلطة على بعضها عوامل أخرى سياسية، مثل ان النظام الطائفي متجذر وقادر على إحباط أي ثورة حقيقية حتى الآن، وأن المجتمع الدولي قد يشمل لبنان في معادلات التسويات لا سيما بين الغرب (وعلى رأسه الولايات المتحدة) ودول الخليج من جهة، وإيران من جهة أخرى، من دون إغفال أدوار، ولو ضئيلة لبنانياً، لروسيا والصين وتركيا، والتعويل على الجيش والأجهزة الأمنية التي أبلت بلاء حسناً إبان أشهر الحراك، وبدء مفاوضات ترسيم الحدود بين لبنان واسرائيل، واطلاق نقاش عودة اللاجئين السوريين. وفي السياسة دائما وأبداً توازن رعب حول سلاح حزب الله قادر على ابقاء الوضع القائم (الستاتيكو) منعاً لحرب أهلية لا يريدها أي طرف حالياً.
ما سبق لا يعفي الطبقة السياسية من مسؤولية ارتفاع مستويات الفقر لتطال نصف السكان تقريباً، ولا من بطالة بلغت نسبتها اكثر من 25 في المائة وفقاً لتقدير سابق لمنظمة العمل الدولية، وربما اكثر من ذلك بكثير، وفقاً لـ “شركة الدولية للمعلومات” التي أخذت تداعيات الأزمة المالية المستفحلة وجائحة كورونا في الحسبان، ولا إعفاء لأحد منهم من مسؤولية تبخر معظم ودائع الناس، لكن تلك الطبقة تتقن فن تحويل الأزمات الى فرص، ليس لنهوض إقتصادي مستدام يشمل جموع اللبنانيين بل لتبقى تلك الطبقة الحاكمة في مواقعها بإنتظار تغيير للنظام لا يأتي عادة إلا بعد حرب او مخاض عسير جداً. وهنا ندخل علم غيب نحتاج فيه الى العرافة البصارة ليلى عبد اللطيف القادرة وحدها في لبنان على جمع مليون مشاهدة لكل حلقة تلفزيونية تظهر فيها!
منير يونس
صحافي وكاتب لبناني