احتفاءً بمرور 50 عاماً على مسيرته الفنية، يقيم الفنان اللبناني شوقي شمعون معرضاً استعادياً (ما بين 4 – 28 أكتوبر) لنتاجه الفني في مؤسسة الفن النقيّ في الرياض بالتعاون مع المديرة الفنية كريستيان أشقر، بعنوان “آفاق جديدة”، مشتملاً على 69 عملاً بمختلف الخامات والتقنيات، من بينها 49 لوحة جدارية (أكريليك وميكسد ميديا)، فضلاً عن رسوم من مراحله المبكّرة، تعكس بمضامينها وعناوينها المراحل المتنوعة التي مرّ بها الفنان منذ أواسط سبعينات القرن العشرين، أي مرحلة الدراسة في نيويورك وانخراطه في سوق الفن والعمل فيها، ثم عودته المتقطّعة إلى لبنان أثناء جولات الحروب، وما استتبعها من إطلالات فنية في دولة الإمارات العربية المتحدة وعلى المنصات الدولية للفن المعاصر بالتعاون مع غاليري السيدة أمل طرابلسي، وصولاً إلى النتاجات الأخيرة 2023 التي عرضها في غاليري مارك هاشم ما بين بيروت وباريس. يرافق المعرض فيلم وثائقي أعدّه المخرج السينمائي بهيج حجيج.
شوقي شمعون الشرقي المتعلق بجذوره وانتمائه، مثل كل المهاجرين الذين عاشوا في الولايات المتحدة الأميركية من قبل، فإنه تشرّب عادات الحياة الأميركية، لا سيما بعدما خاض في فكرها وثقافتها، غير أن هذا التأثر والتّشرب لم يمحُ شرقيته وبقيت نجمته في السماء تدله إلى أرض الطفولة.
لعل الفنان أقرب ما يكون إلى الروح التأملية في استسلامه للرؤى الملونة التي يستجيبُ لسحرها بالغبطة التي يمنحها الفن وحده. من السفر والانبهار بالعالم الجديد، إلى استنفاد القوى لتحقيق الذات، مستدعياً إلى لوحته الناس بصفتهم غرباء، والغرباء يعبرون أفق البشر، يختلطون بالجموع ولا يلتحمون به، وكأن وحدتهم تعلّم نفوسهم الكبرياء. هكذا رسم شمعون الناس ظلالاً ملونة تقف على منصة اللوحة، كرفقاء دربه لا يفارقون أصابعه حتى أصبحوا توقيعه الثاني.
الطّبيعة ومدرسة نيويوركمن أبرز صفات شوقي شمعون أنه “عملق” الطبيعة، حين رسمها بمشهدية مكبّرة على قماشات جدارية. لقد آمن بأن سطح اللوحة هو فضاء روحيّ مؤاتٍ لكل التجارب والنزوات والتأملات والانفعالات، أي بكل ما يسرّ العين ويدهشها. وقف على مجاري الأنهار وتأمل الحصى على شواطئ البحار، رسم المرأة وبحيرات نيويورك ومتنزّهاتها، كما رسم الجبال العاتية والصحاري المقفرة، وانتقل إلى محاكاة أبنية خيالية معاصرة حيث الجدران العازلة تزداد سمكاً حتى الاختناق. سافرت عيناه إلى النجوم تتأمل في مدارات الطبيعة الكونية، كما خاض في غمار التقنيات المسؤولة عن صنع الضخامة الباعثة على تصورات المدن الكبرى تقديراً استقرائياً للتقدم التقني، مستخدماً خامات البناء. وبناء شمعون هو بناء الحلم بالتجديد في الشكل والتصميم والمضمون. فقدم الأبنية على أنها أمكنة للعيش في موزاييك ألوان الليل، في مدن متوهجة بالحياة. إلا أن علاقة الفنان بالواقع هي علاقة تماهٍ، إذ ليس في المرئي سوى حطام الفكر (على حد تعبير الفيلسوف الفرنسي موريس مرلو بونتي)، وشمعون لا يرى ليرسم بل يرسم ليرى.
في أحضان الطّبيعة
يؤكد معرض “آفاق جديدة” لمتذوقي الفن في رحاب عاصمة المملكة العربية السعودية، المسار الغنيّ لفنان تفتحت مواهبه المبكرة على الرسم في أحضان الطبيعة، (من مواليد قرية سرعين التحتا في البقاع عام 1942)، حيث مواكب الضياء وشموخ الجبال وامتداد السهول واتساع الفضاء اللامتناهي. وإذا كانت الجبال هي حدود العالم فهل للسماء حدود؟ أسئلة طرحها طفلاً حين كان يركض في الحقول ويصرخ في الأودية فلا يسمعه أحد، دون أن يدري يوماً أن هذه الأسئلة ستعاود طرحها عليه، وأن هذا الصوت سيدوي في عالم الفن أطواراً وطبقات فوق طبقات.
عام 1968 التحق بمعهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، حيث تلقى مبادئ الرسم والتلوين، على يد أستاذته الذين كانوا من نخبة رواد الفن الحديث في لبنان، (شفيق عبود وناديا صيقلي وجان خليفة وعارف الريّس…).
وكانت بيروت في الستينات وأوائل السبعينات شرفةً على العالم وعاصمة الفنون وموئلاً للمثقفين العرب والأجانب.
واظب شمعون على زيارة المعارض التي كانت تقام في الغاليريات وصالات العرض، والاطلاع على التجارب الحديثة، ليجد أن الفن يسير باتجاه فنون مدرسة باريس التي أضحت مستنفدة، إلى أن قادته الخطى إلى المعرض المقام في صالة مركز كينيدي في بيروت عام 1969، ورأى لأول مرة أعمالاً من الفن الأميركي. كأنه وجد ضالته مدركاً أنه لن يقصد باريس أسوة بزملائه للتخصص العالي، بل ستكون القارة الجديدة مهبط أحلامه.
في خريف عام 1973 انتسب إلى كلية الفنون البصرية والأدائية في جامعة سيراكيوز في نيويورك، حيث تأثر بتجارب فناني التعبيرية التجريدية والفن الحركي (الأكشن) والكولور فيلد.
وفي خضم هذه التجارب ولدت سلسلة من اللوحات أخذت شيئاً فشيئاً شكلاً أفقياً طولياً ضيقاً أشبه ما يكون بـ”مجرى النهر” Riverbed وهو العنوان المعطى لهذه المرحلة التي انبثقت من تأملاته العفوية في سن مبكّرة في مجرى نهر الكلب ومحيطه الأثريّ.
جاءت الأعمال لتعزز فكرة انتشال الرسم من المرجعية التقليدية التي توجّه النَّظر عادةً إلى بؤرة معينة، ما يحيله إلى اللانهائي في الفضاء والزمن، دون اقتراح أي سرد، فقط هذا النبض اللوني الذي يشبه دقات القلب.
يدخل شمعون بعدها في تجارب تدمج بين الفكر الهندسي والتيمة الواقعية المتمثلة بحضور المرأة الموديل. هذه التجارب أحرزت أول نجاح له في بيروت في زمن الحرب، بعد المعرض الذي أقامه في غاليري لا توال عام 1985، ليستكملها لغاية عام 1987، بمجموعة من الأعمال التي أنتجها ما بين بيروت ونيويورك، عمل فيها على تصعيد وتيرة الهندسة الجمالية، في دمج بين عفوية الرسم وجيوميترية الفكر.
الفنان بطبيعة الحال هو ابن المدرسة النيويوركية التي أوصلته إلى حافتين متناقضتين: من جهة فن “الأكشن” حيث ذروة الانغماس في الذات سبيلاً لإفراغ شحناتها الداخلية اللاواعية على القماش، ومن جهة أخرى الحياد في التَّجرد الكليّ كمعنى عميق لفن التجريد. لذا يشكل فنه بمتغيراته وبطابعه التجريبي نقطة تحول أساسية بإشكالياتها ما بين الآفاق المتعددة للتجريد من جهة، وعلاقة الرسم بالحياة والواقع والإنسان والطبيعة وتداعيات الحروب من جهة أخرى، وبالتالي بخيارات النسيج الثقافي المعاصر، الذي يؤسس لمرجعية جمالية جديدة في البحث عن التغاير والاختلاف.
كرنفالات ألوان وشمس الصحراء
سجلت أواخر الثمانينات وبداية التسعينات مرحلة جديدة في حياة شوقي شمعون، استذكر فيها طفولته وسحر مشاهداته لسهل البقاع وقمر سرعين ومنظر جبل صنين في فصل الشتاء، في تجارب لا يمكن فصلها عن وقائع الحرب الدائرة في لبنان، فظهرت لأول مرة تيمة “الانتظار”، وتجلت مع وقوف جمهرة من الناس على منصة اللوحة، في مشهد ثلجي مقطوف من طبيعة لبنان الخالدة.
ولأن الفنان يغمس ريشته في أرض الذكريات، كان يرى شخوصه من بعيد بلا تفاصيل ولا ملامح ولا هيئات، بل بأحجام صغيرة يغمرهم المدى الضبابي الشاسع. ثم أخذ مفهوم الانتظار أبعاداً فلسفية في مشهدية أعماله فأمسى ملازماً لروتين العيش في المدن الكبرى، ووقائع الحياة وما يكتنفها من نزاعات وحروب، لا سيما الانتظار المفقود للسلام على أرض الجراح العربية.
في صيف عام 1995 ولدت سلسلة لوحات “البحيرات” من أثر نزهاته المتكررة على ضفاف البحيرات في متنزّهات هاريمان وتوكسيدو في نيويورك. فقد ظهرت كقصائد لونية تعكس تجليات مشاعر الفنان ونرجسيته وانفعالاته المتدفقة التي يسعى ليثبتها على القماش في نظام تكراريّ يحاكي المنظر كواقع مقروء من خلال نسيجه اللوني والخطيّ. لكن شوقي شمعون أدهش ناظريه، بجداريات الصحراء التي انبثقت من تجربة معيوشة بعد مشاركته في معرض “آرت باري – أبو ظبي” في خريف عام 2008.
مثل رحّالة وصفها بطبيعتها القاحلة وتضاريسها وكثبان رمالها المتوهجة تحت أشعة الشمس الذهبية وقبّتها الزرقاء.
رسمها بالشسوع اللوني الذي عُرف به، وبحفاوة المشتاق إلى ملاقاة أرض الأجداد الأوائل، والمهد الأيكولوجي القديم للإنسان، بحثاً عن آفاق لا متناهية. فقد جلبت الصحراء إلى عينيّ شمعون صوراً غير مسبوقة اكتسبت معايير دولية (ما بين 2008- 2009)، مع تداول لوحاته في مزادات كريستيز في دبي وسوثبيز في لندن، على اعتبار أن الصحراء ليست ماضياً بل حاضر ومستقبل مليء بالإنجازات والوعود الفنية التي تؤسس لمرجعية جمالية جديدة في مشهدية المعاصرة.
المصدر: النهار العربي
مهى سلطان