أعيان المعاني – ماء الكلام المطر (8)

قال مصطفى صادق الرافعي: “ما ذلّت لغةُ شعب إلا ذلّ، ولا انحطّت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار، ومن هذا بفرض الأجنبيّ المستعمِرُ لغته فرضًا على الأمة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها، ويستلحِقهم من ناحيتها، فيحكم عليهم أحكامًا ثلاثةً في عمل واحد: أمّا الأول فحَبْس لغتهم في لغته سجنًا مؤبّدًا، وأما الثاني فالحكم على ماضيهم بالقتل محوًا ونسيانًا، وأما الثالث فتقييد مستقبلهم في الأغلال التي يصنعها، فأمرهم من بعدها لأمرهم تَبَعٌ”.
لذا، علينا التمسّك بلغتنا كي لا تُحبَس ولا يُقتل ماضينا ولا يُقيَّد مستقبلنا وكي لا ينقطع “مطَرُها”… والمطرُ هو الإكثار. فهل من لغة في العالم تعطي معنى مفردة ما لعلة الحكم فيها ليس العربية؟!
الأصل في المطر هو الإكثار أو “التكثير” مع السرعة، فنقول أمطره بوابل من الأسئلة، أي أكثر منها عليه من دون توقّف. والفعل مطر جذره “م ط ر”، وقد ورد في القرآن الكريم ﴿وأمطرنا عليهم حجارة﴾ (الحجر، 74)، أي أكثرنا وعادة النزول من أعلى يكون سريعًا. وكذلك ﴿ولقد أتوا على القرية التي أمطرت مطر السؤء أفلم يرونها بل كانوا لا يرجون نشورًا﴾ (الفرقان، 40).
من هذا المنطلق، نقول مطر المهاجر في الأرض، أي أكثر من السعي مسرعًا، ومطر الطير إذا أسرع في انقضاضه، ومطر الدلو أي ملأه، ومطرت الفرس إذ أسرعت في عدوها.
قال يزيد بن معاوية في قصيدة له:
وأمطرت لؤلؤًا من نرجس وسقت/ وردًا وعضّت على العنّاب بالبردِ
في هذا البيت استُخدِمت الكناية بكثرة لوصف محبوبة تبكي، حيث كنّى عن الدموع الكثيرة المنهمرة من العينين باللؤلؤ وهو يجري من العينين – النرجس – وأي أرض لا ترتوي إن لم يكن الماء كثيرًا، لذا هذه الدموع سقت الخدين اللذين كنى عنهما بالورد، ومن كثرة التأثر والبكاء عضت على الشفتين – العناب، وهو الفاكهة اللذيذة الطعم – بأسنانها الناصعة البيضاء التي كنّى عنها بالبرَد وهو اللؤلؤ ذو اللمعان الشديد.
هذه لغتنا وجمالها وسحرها ودقّتها ورقّتها… اللغة التي ما من لغة في العالم يمكن أن تكون مثلها. فلله درُّك أيتها العربية ما أعظمك لغةً!
وليد الخطيب
الوليد

لمشاركة الرابط: