بيت فيروز العتيق كم منزل في الأرض يألفه الفتى وحَنينُه أبداً لأول منزلِ (أبو تمام) ..بقلم يقظان التقي

هي فيروز الحدث الفني الدائم في صوتها وأغنياتها وفي صمتها على علاقة جوهرية بكل لبنان، ليست ماضي لبنان الزمن الجميل مع الأخوين رحباني وكفى.. بل الإطلالة على كل ما هو عليه المستقبل من افق إلى آخر ومن جماليات وألوان إلى أخرى، فيروز القديمة، كما فيروز الجديدة.. طبيعة لبنان الواحدة ولا تستطيع بالطبيعة نفسها إلا أن تحبها وأن تنحني للحب الذي تقوله في أغنيتها.
الآن فيروز في منزلها القديم، فاكهة المدينة بيروت البصرية الحنينية، وفي بيتها القديم بتلك الشاعرية البسيطة التي لا تخطئ الزمن الرومنطيقي حين تعود لتستقبلنا به، متحفها الغامر في بيروت المثقلة بحبها وجروحات المطر والشمس التي لا تسابق الليل وقمر الأغنية الذي يعرف منازله جيداً.


متحف فيروز في بيروت، مهد طفولتها وصباها إلى الواجهة. وقد بدأت بلدية بيروت مساعي تحويل منزل قديم بني في عصر الدولة العثمانية وقضت فيه الفنانة صغرها إلى متحف مديني يضم أعمالها وصورها وكل مسارها الأول في المدينة ومسارها الآخر الذي انتزعت منه قلوب اللبنانيين من الداخل وفي المهجر.
مساعي بلدية بيروت بدأت العام 2013. ويعتقد أن النجمة فيروز سكنت ذلك المنزل حتى بلغت العشرين من عمرها.
يقول زياد شبيب محافظ مدينة بيروت «تكوين السيدة فيروز الإنساني والفني الذي حصل في العشرين سنة الأولى من حياتها، كان في بيروت. هذه المرحلة مهدت لانطلاقتها ولعطائها. وإنشاء هذا المتحف هو تكريماً لذاكرة المدينة ومن شأنه أن يسلّط الضوء على أيقونة غنائية لبنانية، تشكل نسيج لبنان لوحدها».

ويذكر محافظ بيروت أن العمل حدد في إطار زمني يمضي قدماً ومن دون تأخير حتى.
منزل السيدة فيروز مؤلف من ثلاثة طوابق وهو اليوم في حالة سيئة يرثى لها والمشروع يهدف إلى إعادته إلى سابق عهده بكامل ألقه السابق وبكل أشيائه من حجارة وسقوف ومدخل وغرف.. بكل هندسته السابقة كواحد من الأبنية التاريخية في المدينة التي تختفي لصالح جمهورية الباطون والأبراج الشاهقة.
يذكر أن استخدامات المنزل طوال الفترات السابقة كانت معطلة..
والأهم أن عملية البناء تترافق مع ورشة غنيية ونقاشات مع كل الذين كانوا محيطين بالمنزل وسيضمن المتحف كل ما يتعلق بتراث السيدة وحكماً بالكثير من تراث الأخوين رحباني والمؤسسة الكبيرة التي اشتغلت مع فيروز بالقصيدة واللحن واللوك والشعر والماكياج والملابس وكل الأشياء التي تصير جسداً وتصير زمناً وذاكرة.
علماً أن هذا البيت ما كان يضم عائلة واحدة بل تعددية غرف وعائلات وأذكر أن الفنان التشكيلي حسن جوني كان أول من أشار إلى تلك الصورة الجميلة لمنزل كان فيه والسيدة فيروز جيران في عالم واحد.. لا بل جيران في غرفة واحدة..
هو بناء كبير أساسه كان مخفراً للدرك اللبناني.. ليس بعيداً من عسكريتاريا الأخوين رحباني.. يا للمصادفة! ويستمر الحفاظ على كل أوجه الاستعمال التي كانت في المبنى..
هو منزل فيروز إذاً، والصور هي كل الكلام.. تلك الحجارة المتراصفة في الطريق المغطى إلى غرف داخلية.. آخر الرواق، وآخر المنارات، والمشوار الجميل.. مشوار الضوء المستحيل في المدينة.. مكان الشعر والأغنية والموسيقى والجمال..
هي فيروز بيروتنا المستحيلة المنحازة إلى فنانيها وشعرائها وأدبائها ومسرحييها وبالتأكيد أيقونتها.
بالتأكيد فيروز لا تحتاج إلى برهان كهذا، وهي من مقامها في قلوب اللبنانيين متوهجة.. ولكن توهج الجمال في الغرف المجهورة، من نهج تلك السنين، في علاقتها الاجتماعية، تلك الأصوات التعددية خلف الجدران، تلك الولادة الأولى شبه التجريدية قبل سنوات الضوء، تلك الحجارة الموصولة بتوق الأشجار، والممرات التي تدلف إلى الغرف من هذه الناحية وتلك الفتنة في فضاء الغرف المفتوح أمام السفر إلى مسقط رأس السيدة في مقامها الموصول بحياة اللبنانيين اليومية والمعاصرة بالمطلق.
غرف تشكل مدينة على بحر، غرف عميقة، قريبة من الشعر والشجن مع تلك الاشكال المكسورة.. ليست مجرة صور.. لا سيما مع فيروز التي لا تنسى. تتذكر.. ونتذكر معاً. وهي معنا مثل كل شيء.. وبعد كل شيء.. بيروت الباقية بكل ذلك التشكيل البصري الرائع والدافئ والغامر والساحر، حتى كما هو!


د. يقظان التقي*
كاتب وصحافي لبناني
(تصوير نبيل اسماعيل)
مقالة من أرشيف صحيفة المستقبل

لمشاركة الرابط: