يتعلّق الأمر بالقانون العام والمراقبة على الإعلام، بقدر ما يتعلّق بقانون الذات والمراقبة الذاتيّة.
لقد أفرغت معظم وسائل الإعلام المرئي في لبنان “الإعلام” من مضمونه وخصائصه من خلال مجموعة برامج يُفترض أن تكون من صلب اهتمام الجمهور وترفيهيّة، فإذ بها برامج تقفز عن دورها كممثّل للرأي العام في المنطقة التي يتمركز فيها، وبرامج بعيدة عن الأدوار التعليميّة والتثقيفيّة والإرشاديّة والتوجيهيّة والتفاعل الاجتماعي وتطوير الذات.
أيّ تأثير إيجابي في الرأي العام تمنحه تلك البرامج التي لا يخجل معدّوها ومقدّموها من جعلها منبرًا لاستخدام العبارات النابية، والكلمات التي يخجل “ابن الشارع” من استخدامها، والأحاديث التي لا توحي سوى بإثارة الغرائز الجنسيّة و”الوساخة” بكل ما للكلمة من معنى؟!..
نحن في بلد يجمع طوائف الكون، وإذا سلّمنا جدلاً أنّ البعض يعتبر (بحقٍّ أو دون حقٍّ) أنّ الطوائف الإسلاميّة متزمّتة ومتشدّدة، وأنّ الطوائف المسيحيّة متحرّرة ومنفتحة، وأنّ الأُولى ترفض بالإجمال تلك البرامج المنفتحة، والثانيّة تتقبّلها، فقد غاب عن ذهن هذا البعض أنّ أبناء وعائلات الطوائف الإسلاميّة كما المسيحيّة، هم “أبناء بيوت”، ومتمسّكون بالأخلاق والتهذيب، وليسوا همجيّين، ويعرفون الأصول، وهم بالدرجة الأولى بشر يسعون إلى الارتقاء، ويرفضون مهما كانت وجهات نظرتهم في الحياة، الإسفاف وقلّة الأدب في الحديث.
هل بدر إلى أذهان المسؤولين عن المحطّات التلفزيونيّة ومعدّي ومقدّمي البرامج المسمّاة ترفيهيّة، أنّهم بالسّماح باستخدام الشتم والإسفاف والبذاءة والتلميح الغرائزي الدنيء في تلك البرامج، ليسوا بعيدين عن التطرّف، أو عن مساهمتهم المباشرة في دعم الإرهاب وتشجيعه؟!..
إنّ لانتشار الإرهاب باسم الدّين في مناطقنا والعالم له أسبابه المتعدّدة، ولكن من الأسباب المباشرة التي تدفع بالعديد من الأشخاص والمجتمعات إلى الارتماء في أحضان الإرهاب، هو تحدّيهم في معتقداتهم وتقاليدهم، وبعض هؤلاء يلوذون إلى التشدّد “باسم الدّين” عندما تصبح الأجواء المحيطة بهم أجواء انفلات وقلّة حياء وعدم تهذيب (دون تبرير ما يُقدمون عليه)، وتلك الأنواع من البرامج التي تكثر على بعض شاشاتنا، تساهم، من خلال استباحة مشاعر الناس وأخلاقهم وطبيعتهم المحافظة، في هذا النوع من اللّوذ إلى التشدّد، وبالتالي في أن يصبح هؤلاء المتشدّدون مشروع إرهابيّين في مرحلة لاحقة.
إنّ تلك البرامج المسمّاة زورًا ترفيهيّة، والتي تتعامل مع المشاهدين كجمهور موجود في أزقّة، فتسمعه شتائم وألفاظ أبناء الأزقّة، وكلمات لا يتقبّلها عقله ولا تربيته ولا بيئته، وتجهد كي تثير كلّ غرائزه وشهواته بطريقة لا تمتّ للأدب والرقّي بصلة، هي برامج تزكّي التشدّد والانقسام، وتوسّع الشّرخ بين أبناء المجتمعات التي يُفترض أن تشكّل مجتمعًا واحدًا تحت سقف وطن واحد. وهي برامج تدعم الإرهاب وليد التشدّد، لأنّها بما تعتمده من أساليب، بعيدة كلّ البعد عن الانفتاح، لأنّ الانفتاح يعني فهم البيئة التي يجب أن تُدفع إلى الانفتاح الواعي، ويعني اعتماد الأسلوب الذي يُقرّب هذه البيئة من مفهوم الانفتاح الحقيقي وليس الأسلوب الذي يستفزّها وينفّرها.
قد يقول قائل: كل محطّة تلفزيونيّة حرّة بما تقدّمه وبأسلوبها.. لا يا سادة، الهواء ليس ملك هؤلاء؛ فعندما تبثّ ما تبثّه على الهواء، إنّما ذلك لا يستأذن أحدًا، وهو اقتحام للخصوصيّة، ولذلك مسؤوليّة ما يُبثّ كبيرة ودقيقة وحسّاسة.
نهايةً، لا يفهمنّ أحد أنّني إنسان منغلق أو متشدّد، بالعكس.. أنا أؤمن إلى أقصى الحدود بالانفتاح ولكن الواعي، وأؤمن بالإنسان كقيمةٍ إنسانيّةٍ وأخلاقيّة، وليس كأداة لتهشيم أحاسيس الغير وإشعارهم بأنّهم لا يمتّون للرقيّ والأدب بصلة.