كنّا نؤوب عائدين، أنا وزوجتي، من مدينة “سانتوس” الساحلية الساحرة إلى حاضرة ساو باولو الكبرى، صعوداً عبر الطريق الجبلي المتعرّج المليء بالجسور والأنفاق، والذي يخترق الغابات الكثيفة عند منحدرات الساحل الخلّابة. هو منظر ولا كل المناظر، وطبيعة تأسر الألباب وتترك الأفئدة مشدوهة مذهولة من شدّة الجمال والجلال. إنها الطبيعة بكامل زينتها، إنّها الطريق التي تتآخى مع الطبيعة في مشهد مهيب يملأ القلب وجلاً وخشوعا.
ومدينة “سانتوس” كبرى مدن ساحل ولاية ساو باولو، هي مدينة تاريخية عريقة – بمعايير القارة الأميركية – اكتسبت شهرة عالمية في القرنين التاسع عشر والعشرين بسبب مرفئها الشهير الذي كان أبرز مركز لتصدير البن في العالم ، فقد كانت تصل إلى مرفأ “سانتوس” مئات الآلاف من أكياس البن البرازيلي المنتج في الداخل البرازيلي، بالأخص في ولاية ساو باولو وجوارها، على امتداد مزارع شاسعة يعمل فيها مهاجرون.
وقد كانت “سانتوس” حتى خمسينيات وستينيات القرن العشرين البوّابة الرئيسة لاستقبال المهاجرين الذين يفدون من كافة أصقاع الأرض ويتّخذون من البرازيل وطناً جديداً للعيش فيه ، وأرضاً خصبة لتحقيق أحلامهم بالرفاهية والثراء والعيش بكرامة.
على امتداد عقود استقبل مرفأ “سانتوس” آلاف المهاجرين ولا أنسى من بينهم جدي لوالدتي سعيد ساطي رحمه الله، وهو كان قد قدم إلى هذه البلاد في عام 1952، وكان شاباً في الحادية والعشرين من عمره، وأقام فيها ما يزيد عن ستة عقود قضاها في الكد والإجتهاد، إلى أن توفاه الله تعالى في عام2016 .
وفي السبعينيات تم الاستغناء الكلي عن السفر البحري، وصارت حركة المسافرين والمهاجرين تتم عبر المطارات. ومنذ ذلك الحين اقتصر نشاط مرفأ “سانتوس” على النشاطات التجارية. وقد ساهم المهاجرون بكدهم واجتهادهم في إعمار البرازيل البلاد التي استقبلتهم بالترحاب ، وصاروا رافداً من الروافد الرئيسة في النسيج الإجتماعي والسكّاني للبوتقة البرازيلية العظيمة التي صهرت الأعراق والألوان وكافة الانتماءات في وحدة باهرة في تجانسها رغم تنوّعها الهائل، لتشكل الشعب البرازيلي، المؤلف من خليط هائل من الأعراق والأجناس والألوان والانتماءات
الأسماء عربية
أخذنا أنا وزوجتي، ونحن في طريقنا صعوداً من ساحل “سانتوس” وجوارها الى مرتفعات ساو باولو، نتأمل المناظر الخلّابة المهيبة المحيطة بنا ونراقب معالم الطريق. قلت لزوجتي أن الفضل الأكبر في الحفاظ على هذه الغابات التي تغطّي منحدرات الساحل المتدرّجة يعود لبروفيسور وعالم جليل في الجغرافيا والجيولوجيا من أصل لبناني إسمه عزيز أبو صابر، وقد لمع إسمه في القرن العشرين كواحد من أبرز المختصّين في دراسة واستكشاف جغرافيا البرازيل وتبويب وتصنيف تضاريسها وغطائها النباتي الهائل الثراء.
يعود للبروفيسور أبو صابر الفضل الأكبر في إصدار القانون الذي جعل من منحدرات الساحل وغاباتها محمية طبيعية يحظر المساس بها وينبغي الحفاظ عليها.
في الطريق كنا ندخل في نفق ونخرج من نفق آخر ، ولم يكن هناك مفر من حفر الأنفاق في هذه الطبيعة الجبلية المتعرجة والبالغة الوعورة. وكل نفق من الأنفاق يحمل اسم شخص يجب تكريمه ، لكن ما لفتنا أن العدد الكبير نسبياً من الأنفاق تحمل أسماء عربية ، فما خرجنا من نفق “الدكتور فوزي” إلا لندخل في نفق “الدكتور توفيق مطر”. وما خرجنا من هذين النفقين إلا لنلج في نفقي “أليشاندري شفيق معلوف” ومن ثم “الزرزور”.
وهكذا اتّضح لنا أن “طريق المهاجرين” هو اسم على مسمّى. إذ تحكي معالمه بشكل واضح حكاية المهاجرين الذين اقتحموا الصعاب وتركوا الديار ليبنوا لأنفسهم وطناً جديداً وليساهموا في بناء هذا الوطن وازدهاره ونموه.
ولكن ما لفتنا بشكل إيجابي الإعتراف بقضل بالمهاجرين العرب الكبير على هذه البلاد ، فهذه الأنفاق العربية الإسم وجدت النور في آخرها وكانت نوراً على نور لهذه البلاد الرائعة.
ولا نغفل عن التنويه أن الفضل الأكبر في شقّ “طريق المهاجرين” كما غيره من عجائب الهندسة يعود لسليل مهاجرين لبنانيين : باولو سليم معلوف، الحاكم الأسبق لولاية ساو باولو.
د.بلال رامز بكري – البرازيل







