رحل زياد! ما أثقل هذه الجملة على السمع والقلب والذاكرة!
رحل من كان الضحكُ عنده مرًّا، والحبّ سياسيًّا، والوطنُ وجعًا يُعزَف على مقام الحنين.
غاب زياد اليوم، كأنّ بيروت طُفئت فيها شمعةٌ أخيرة. غاب الذي تحدّث باسم الناس لا من منابر السلطة، بل من على خشبات المسرح، وعلى نغمة البيانو، ومن زوايا الإذاعة، ومن دهاليز القهر اللبناني المزمن. رحل من قال ما لم يجرؤ كثرٌ على قوله، ومن صاغ بألحانه مرافعةً شعبية ضد الحرب والفساد والطائفية والانهيار.
ابن فيروز وعاصي… لكنه لم يكن نسخةً عن أحد وُلد زياد في بيت مجبول بالموسيقى والقصيدة. ابن فيروز وعاصي الرحباني، لكنه لم يكن ظلًّا لهما، بل مشروعًا متمرّدًا منذ اللحظة الأولى. كتب ألحانه الأولى وهو في سن مبكّرة، ووقّع مسرحياته الجريئة قبل أن يبلغ الثلاثين. لم يقف عند التقليد، بل انحاز إلى الناس، واختار الهامش لا البريق، والسخرية لا الخطابة، والحقيقة لا المجاملة!
الساخر الكبير… الناقد الأعمق
لم يكن زياد مجرد موسيقي. كان مرآةً مشروخة تعكس ما نحن عليه، بصدق جارح وسخرية دامعة.
في مسرحياته مثل “نزل السرور” و”فيلم أميركي طويل” و”بالنسبة لبكرا شو؟”… قدّم شخصيات من لحمنا ودمنا، مأزومة مثلنا، خائفة مثلنا، ساخرة مثلنا.
كان أستاذًا في تحويل الهمّ اليومي إلى حالة فنية، وفي تفكيك الخطابات الكبرى بضحكة موجعة. كان نقده لاذعًا ليس لأنه شرير، بل لأنه شجاع!
زياد السياسي… الذي لم يتلوّن
لم ينكفئ زياد عن الشأن العام، بل اقتحمه بقوة. انحاز إلى اليسار لا ترفًا، بل وفاءً للفقراء والمهمّشين.
دفع ثمن مواقفه من المحاور اللبنانية والإقليمية، لكنّه بقي صادقًا، عنيدًا، خارج القطيع.
لم يهادن أحدًا، ولم يجمّل قبح الواقع، بل قاله كما هو: قاسيًا، متعبًا، عبثيًّا!
اليوم… سكت البيانو! اليوم، سكتت أنامله!
انطفأت نكاته التي كانت تشبه ضحكة من يعرف الكثير ويصمت كثيرًا.
غاب زياد، لكنّه لم يرحل. فكيف يرحل من كان الصوت البديل في زمن صمت مخيف؟
كيف يُنسى من كتب الموسيقى للوجع اللبناني، وجعل من المسرح منبرًا للرفض والاعتراف والضحك في آنٍ واحد؟
زياد لا يُرثى بكلمات قليلة.
زياد مدرسة كاملة، ووجدانٌ مجروح على هيئة إنسان، ولبنان صغير كان يصرخ في وجه لبنان الكبير!
زياد قال يومًا مهما قلت في عزاء شخص ما وعبّرت عن حزنك، ما زالت عبارة الله يرحمه أصدق كلمة!
وليد حسين الخطيب







