في ندوة عن الإمام الأوزاعي… دعوة لإحياء تراث التعايش والتسامح وبناء مسارات فكرية للحوار

إكرام صعب

في قاعة توفيق الباشا ضمن  نشاطات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، نظّم النادي الثقافي العربي ندوة فكرية بعنوان “فكر الإمام الأوزاعي”، شارك فيها الوزير السابق والمفكر السياسي روجيه ديب، والأمين العام للجنة الحوار الإسلامي المسيحي في لبنان محمد السماك، بحضور رئيسة النادي سلوى السنيورة بعاصيري وقالت السنيورة بعصيري :
درج النادي الثقافي العربي على مدى الدورات الستة والستين من معرض بيروت العربي الدولي للكتاب والذي ينظمه منذ العام 1956، على ان يحتفي بشخصيات مرموقة علماً وفكراً وثقافة، وغالباً ما كان يقع الاختيار على شخصياتٍ غيبها الموت، مخلفة ارثاً معرفياً ملهماً ومقدراً، وكُثُر من تلك الشخصيات من كان قد مضى على غيابه عقود تصل احياناً الى قرن أو يزيد.”


واضافت” ولكن شاء معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، في دورته السادسة والستين هذه ان يتوغل بعيداً في الزمن لاستحضار شخصية تستدعيها احوالنا ويعوزها حاضرنا الذي تتقاذفه التوترات والتضليل والاستقطاب، وذلك بغية استعادة إنسانية الكلمة لتنتصر سردية الاعتدال والسلام والاستقرار على سردية التشدد والتصعيد والتعصب.
انها شخصية الامام الاوزاعي الذي لقب بإمام العيش المشترك في لبنان لما مثلته مواقفه في عصره من تسامح وجرأة في قول الحق.”


واوضحت ان ” الأوزاعي أو أبو عمر عبد الرحمن بن عمرو ولد في العام 707 ميلادي وغيبه الموت في العام 774، ليسبر غور الحياة على مدى ستة عقود ونيف تقاطعت بامتدادها مع عهدين سياسيين؛ العصر الأموي والعصر العباسي أي الحقبة الذهبية للمد الإسلامي التي اتسمت بالثراء المعرفي وزخرت بالعديد من العلماء والفقهاء والمحدثين.
وأُطلق على شخصية ندوة اليوم لقب الاوزاعي نسبة الى قبيلة الاوزاع وهي قبيلة يمنية في الأصل، نزل افراد منها في دمشق ومن بينهم عائلته التي انتقلت بعدها الى بعلبك حيث ولد. كان متفوقاً في علومه واكثر جرأة من جميع اترابه فقيل انه افتى في مسائل عقائدية وهو في الثالثة عشرة من عمره. كان مؤمنا شديد الإيمان بالقاعدة الإسلامية القائمة على “الرحلة في طلب العلم” لذا تنقل بين بعلبك والشام والبصرة والمدينة المنورة والقدس. كان من كبار المدافعين عن الإسلام والسنة النبوية سيما في زمن تزايد البدع والجدل والانحراف عن القرآن الكريم. استقر في بيروت بدافع رد الاعتداءات عن ديار الإسلام وأيضا للدفاع عن الحق، فهو لم يتردد في مراجعة الحكام بالنصح والإرشاد متى رأى منهم حيداً عن الصواب. وكان في هذا الأمر قد واجه والي الشام والخليفة العباسي ابي جعفر المنصور اللذين عزما على اجلاء أهالي جبل لبنان النصارى بعد ان تمردت جماعة منهم على العباسيين وشقت عصا الطاعة. فوقف الاوزاعي بوجه الخلافة مذكراً اهل السطلة بالعدل بين الناس، فإن “خطأ فئة لا يستوجب معاقبة الجماعة”. وعليه أبطل القرار فلقب بشفيع النصارى لموقفه الحازم هذا.”
وتابعت ” حفظ اهل الجبل للأوزاعي جميله، وتجلى ذلك خلال تشييعه، حيث شارك من النصارى واليهود والقبط ما يوازي أو يفوق اعداد المسلمين.
دفن الإمام أبو عمر عبد الرحمن بن عمرو في قرية حنتوس في ضواحي بيروت والتي أضحت تعرف نسبة اليه بمنطقة الأوزاعي. وشيد على قبره مقام ومسجد تحولا الى محجة لمريديه من كل الأديان والمذاهب.”
وختمت ” التعرف على فكر الإمام الأوزاعي والإبحار عميقاً في نهجه وسماحته ومقارباته الإيمانية نستمع اليوم الى قامتين معرفيتين لهما باع طويل في مجال الحوار الإسلامي المسيحي.
● روجيه ديب: الإمام الأوزاعي شريكي في الإنسانية… والتعايش مسؤولية وطنية
في كلمته، عبّر الوزير السابق روجيه ديب عن تأثره الشخصي بفكر الإمام الأوزاعي، واصفًا إياه بأنه “واحد من أعمدة الفكر الإسلامي الذين لم يُقدَّروا بما يكفي في زمننا”. وقال إن الأوزاعي جسّد نموذجًا راقيًا في الفقه والاجتهاد، حيث قام بأكثر من 70 ألف اجتهاد فقهي، وهو رقم يعكس عمق فكره وسعة معرفته.
وأضاف ديب أن ما لفته في شخصية الإمام الأوزاعي هو المفهوم العميق لاستقلالية القضاء والعدل الشامل الذي دعا إليه للجميع، بغض النظر عن الدين أو الانتماء. وقال:
“الأوزاعي كان سابقًا لعصره، بشجاعته الفكرية وانفتاحه، وطرحه لمفاهيم قريبة من الحداثة، إذ كان يرفض الظلم والعقاب الجماعي، ويدعو إلى احترام الإنسان كقيمة عليا”.
ورأى ديب أن من عظمة الإمام الأوزاعي أنه لم يكن فقط فقيهًا، بل رجلًا حواريًا، يجمع بين الحكمة والتواضع والمعرفة. ولفت إلى أن التعمّق في فكر الأوزاعي يمنح المسيحيين وغير المسلمين شعورًا بالاطمئنان تجاه الإسلام الحقيقي، لأنه فكر قائم على الشراكة الإنسانية وليس الإقصاء.
واستعرض ديب مسيرة التعايش الإسلامي المسيحي في لبنان، معتبرًا أن اللبنانيين، وخصوصًا مسيحيي المدن الساحلية، يملكون تجربة فريدة في العيش المشترك، تعود إلى العهد العثماني، حيث تولّى مسيحيون مناصب رفيعة في إدارة الدولة، بما في ذلك وزارة في بلاط السلطان.
وربط ديب هذا الإرث بتاريخ لبنان الحديث، مستذكرًا شخصيات تركت أثرًا في تعزيز التعايش، من بينهم رفيق الحريري الذي رأى فيه نموذجًا لرجل الدولة الجامع، ووليد جنبلاط الذي حافظ على فكرة لبنان الكبير، والسيد حسن نصرالله في مواقفه الإصلاحية، والبطريرك الراعي الذي زار المملكة العربية السعودية بما يحمله ذلك من رمزية.
واعتبر ديب أن لبنان يعيش اليوم مرحلة ترقب خطرة، مؤكدًا أن الوقت الراهن يتطلب بناء “مسارات حوارية” تهدف إلى إنتاج رؤية وطنية موحّدة، قادرة على حفظ السلم الداخلي والخارجي، وختم قائلًا:
“دفن الإمام الأوزاعي الذي جمع المسلمين والمسيحيين، ذكّرني بمشهد دفن رفيق الحريري، حين توحّد اللبنانيون حول رجل أراد الخير لوطنه

● محمد السماك: الإمام الأوزاعي ترجم الإسلام الحقيقي… ومهمتنا الحفاظ على ثقافته
في مداخلته، أضاء الأستاذ محمد السماك على البعد الإنساني والفكري في تراث الإمام الأوزاعي، معتبرًا إياه صوتًا عاقلاً في تاريخ الإسلام، ورمزًا من رموز التعايش والمواطنة.
قال السماك إن الإمام الأوزاعي لم يكن مبتدعًا لمفاهيم جديدة، بل تجلّت عظمته في التزامه بالتعاليم الإسلامية الحقيقية، التي تدعو إلى التسامح والانفتاح واحترام الآخر. واستشهد بعدة محطات من السيرة النبوية لتوضيح هذه الرؤية، أبرزها:
• قصة بناء المسجد في المدينة المنورة، حيث رفض النبي محمد استخدام الجرس للدعوة إلى الصلاة، احترامًا للمسيحيين الذين كانوا يستخدمونه، في مشهدٍ يعكس الحساسية العالية تجاه التنوّع الديني.
• قصة دخول النبي مكة، حيث أمر بإزالة التماثيل من الكعبة، لكنه أبقى على صورة السيدة مريم العذراء وابنها المسيح، وهو ما يدل على عمق الاحترام للمقدسات المسيحية.
• وثيقة النبي إلى دير سانت كاترين في سيناء، والتي دعا فيها إلى حماية المسيحيين والدفاع عنهم، في واحدة من أوائل وثائق الحقوق الدينية في التاريخ الإسلامي.
وأضاف السماك أن الإمام الأوزاعي ترجم هذه المبادئ في حياته العملية، فكان يدافع عن الأبرياء ويرفض العقاب الجماعي، مستندًا إلى قوله تعالى: “ولا تزر وازرة وزر أخرى”.
وتابع قائلاً:
“فكر الإمام الأوزاعي يذكّرنا بأن الإسلام لا يمكن أن يتناقض مع التسامح، بل هو في صميمه دين احترام للإنسان”.
وحذّر السماك من ضياع هذه الثقافة في ظل تشتت الأرشيف اللبناني وتراجع قيم الحوار، مشددًا على أن مهمة المثقفين اليوم هي إحياء تراث الأوزاعي وتعزيزه في المناهج والفضاءات العامة، ودعم مبادرات الحوار التي تسمح بإنتاج ثقافة وطنية جامعة.
وختم بالقول:
“إحياء فكر الأوزاعي ليس خيارًا ثقافيًا فقط، بل واجب وطني وإنساني، من أجل بناء مستقبل يتّسع لجميع أبناء لبنان”

[email protected]

لمشاركة الرابط: