ماجدة داغر
لم يكن الحفل الموسيقي الذي احتضنته كنيسة القديس يوسف للآباء اليسوعيين في الأشرفية مساء الثلاثاء 27 شباط، كأيّ احتفال موسيقيّ سيمفونيّ اعتاد اللبنانيون على حضوره بدعوة من الكونسرفتوار الوطني، على رغم أهمية هذه الاحتفالات التي دأب المعهد الوطني العالي للموسيقى على تنظيمها منذ سنوات طويلة، ناثرًا في الفضاء اللبناني الحزين بعض فرح وأمل وإصرار على نشر ثقافة الموسيقى الكلاسيكية، والحفاظ على هذا التقليد الحضاري، كمنتج لبناني إبداعي كان الكونسرفتوار رائده في المنطقة العربية برمّتها. بل كان حدثًا موسيقيًا إبداعيّاً ثقافيًّا مع ضيف استثنائي يجسّد صورة لبنان المشرقة في العالم: المؤلّف الموسيقي وعازف البيانو اللبناني العالمي عبد الرحمن الباشا.
بدعوة من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى المؤلفة الموسيقية ورائدة الأوبرا العربية د. هبة القواس، وبالتعاون مع مؤسسة أصدقاء الأوركسترا الفلهارمونيّة اللبنانية، ومؤسسة Bechstein الألمانية، حضر الباشا، المقيم في باريس، إلى بيروت لإحياء الحفل الموسيقي، وذلك ضمن استراتيجية بدأتها القواس منذ فترة للنهوض بالكونسرفتوار، وللخروج من الكبوة التي يعانيها المعهد كما معظم مؤسسات الدولة. وتتضمن هذه الاستراتيجية العديد من الخطط التنفيذية في جميع المجالات الموسيقية والأكاديمية للمعهد، ومنها استضافة موسيقيين لبنانيين مغتربين، لمعوا في العالم كأحد أبرز الوجوه وأكثرها تألقًا في الموسيقى. تأتي هذه الخطوة في إطار استعادة هؤلاء المبدعين إلى وطنهم عبر مشاركتهم في العديد من الأحداث الثقافية التي ينظمها المعهد، وتثبيت حضورهم في أطُر تعاونات موسيقية وأكاديمية.
فكان عبد الرحمن الباشا هو الحدث، كما اعتاد أن يصنع الأحداث الموسيقية، عبر موسيقاه التي عزفها مع أهم الأوركسترات العالمية، وعبر اعتلائه أعرق المسارح في كل أنحاء العالم.
احتشدت كنيسة القديس بنخبة من الشخصيات اللبنانية الثقافية والموسيقية والسياسية والإعلامية والدبلوماسية، تقاطروا لحضور الموسيقي الكبير وفي مقدمتهم ثمانية سفراء لدول: بلجيكا، بولندا، رومانيا، إسبانيا، النمسا، باكستان، ألمانيا والبرازيل. فضلاً عن النواب والوزراء والسياسيين: فؤاد مخزومي، عبد الرحمن البزري، طارق متري، شارل رزق، محمد المشنوق، حسن منيمنة، الياس حنا، اللواء محمد خير، وغيرهم. كما توافد جمهور كبير من محبّي الموسيقى والموسيقيّ العالمي الذي أبدع في عزفه على البيانو، بروح ممتلئة بالموسيقى، وبمهارة أبرع عازفي البيانو في العالم، حيث قدّم العديد من الحفلات منفردًا أو مع الأوركسترا الوطنية الفرنسية والأوركسترا الفلهارمونيّة الملكيّة وأوركسترا برلين الفلهارمونية وغيرها كثير. أما العزف في بيروت، فتبقى له نكهة خاصة وحنين وجداني بدا جليًّا في أدائه، في ما تمثّل له بيروت من “حلم دائم”، على قوله في حديث خاص على هامش الحفلة. وبتلك النشوة الرّوحية عزف لبيروت التي قال عنها أيضًا “المدينة المطبوعة في قلبي، والتي اكتشفت العالم من خلال نورها”، وهو الذي غادرها فتيًّا للدراسة في المعهد الوطني العالي للموسيقى في باريس منذ حوالي خمسين عامًا.
بالتصفيق والترحاب استقبله جمهوره الذي قارب ال 500 شخص، بينما لم يجد كثر مكانًا يجلسون فيه، فاتخذوا أمكنة لهم، إما وقوفًا أو استنادًا على أعمدة الكنيسة أو جلوسًا على الأرض بما أتيح لهم، أو حتى استماعًا من بعيد في الردهات الداخلية. وذلك بعد ترحيب من رئيسة المعهد الوطني العالي للموسيقى هبة القواس بضيف المعهد الكبير، ليدخل بعدها إلى المذبح/ المسرح حيث البيانو، آلته الأثيرة، محييًا الحضور بانحناءة نبيلة، وعزف أسر الحضور منذ اللحظات الأولى التي بدأ بها برنامجه الموسيقي مع “باخ” Bach أعظم موسيقيي عصره وربما العصور اللاحقة، حتى نهاية العزف وما بينهما من مقطوعات للبيانو، تداخلت فيها القوة والعنف والرقّة والشاعرية والطفولة والحلم والرومنسية.
في المشهد الذي تضمّن كل هذه الصّيغ والأنماط الموسيقية المختلفة والمتنوعة والمتناقضة، تنقّل عبد الرحمن الباشا بين تضاد مقصود في اختياره للبرنامج. فالانتقال من موسيقى يوهان سباستيان باخ في بنائها المفصّل والصّعب والمعقّد(Concerto Italien, Allegro, Andante, Presto) ، إلى موسيقى “شاعر البيانو” “شوبان” F.Chopin العبقرية، ذات النمط المختلف بحمولتها الشاعرية والعاطفية وتدفقها الرقيق والحالم في Trois Nocturnes opus 9، إلى “شوبان” نفسه في مقطوعة “بولونيز” Polonaise الشهيرة ذات الأبعاد الملحمية والبطولية، وما تحمله من دفق موسيقي وانفعالات متواترة، استطاع الباشا ترجمتها عزفًا بإتقان وأمانة وارتقاء روحي، بمهارة قلّ مثيلها جعلته شريكًا في الخلق الإبداعي لمقطوعات “شوبان”، بأنامل ماهرة أتاحت للآذان المرهفة تقدير لذّة استشعرها المؤلف ومنحها العازف لسامعيه، ليستعيدوا معها ما قيل عن موسيقى شوبان إنها “مدافع مدفونة بين الزهور”.
بهذه الرشاقة الساحرة، انتقل العازف إلى مناخه الموسيقي الحميم، مستعيدًا العالم الطفولي عبر مؤلفاته الخاصةLe monde des enfants (Berceuse, Comptine, Reverie du petit soldat de bois, Devant le sapin de Noel, L’enfantine, L’adolescente ). والتي نقل معها الحضور، المغرق في الإصغاء، إلى فضاء مختلف من دون قطع خيط الانسيابية الشفاف والمتواصل الذي رافق عزفه منذ اللحظات الأولى.
ومن عبقرية المؤلف الموسيقي الفرنسي “موريس رافيل” M. Ravel، عزف عبد الرحمن الباشا خاتمًا، أعظم مؤلفاته للبيانو وربما أكثرها صعوبة من: “Gaspard de la nuit” (Ondine, Le Gibet, Scarbo) . فخامة الموسيقى وعمق المضمون (المستلهم من “غاسبار الليل” للشاعر الفرنسي مبتكر “قصيدة النثر” ألويزيوس برتران) وبراعة العزف وقوة الأداء والترجمة الموسيقية، شهد لها جمهور الباشا الذي حلّق معه إلى آفاق لا متناهية وأبعاد مترامية الانفعالات. هذه الأمكنة البعيدة في ما وراء العزف زارها العازف آخذًا معه سامعيه، في مقطوعة Scarbo التي ختم فيها رحلته العزفية المدهشة، في تحدٍّ مقصود لإثبات براعته وتكريس تربّعه على عرش أهم عازفي البيانو في العالم، وذلك في اختياره عزف أصعب قطعة موسيقية كُتبت للبيانو في تاريخ الموسيقى.
استطاع الباشا أن يكون كالساحر في البراعة والإتقان واستحضار “رافيل” الأصعب، بما تتضن موسيقاه من خصوصية شديدة في تركيب الهارمونيا والأبعاد الصوتية يميناً ويساراً. بتلك الأثيرية دخل العازف بعمق متناه في البيانو، وفي الوقت نفسه كان خفيفًا في الصوت بتقنية مذهلة وسيطرة كاملة على أصابعه غير المرئية في الخفة والسرعة، وهو من نال جائزة كبرى عن عزفه لرافيل، فأثبت أنه الأجدر في عزف أعظم موسيقيي فرنسا، وربما الأجمل على الإطلاق.
شو بخبرك عن بيت من لبنان !
يقول الفنان وديع الصافي في رائعة من أجمل أغانيه ” بيتي ما برضى يسيب بيتي أنا سلاحو .. ما بتركو للديب ولا بعير مفتاحو” من المؤسف القول أن بيوت العديد من اللبنانيين اليوم “تركت للديب” وضاعت مفاتيحها … وما أدراك ماذا فعل بها ” الديب” ؟ يعرف البيت اللبناني الأصيل ليس من حجارته المقصوبة فحسب
Read More