لطالما شغلتها بيروت، مدينتها المأهولة بالذكريات التي حملتها معها في قلبها إلى لندن، مدينة الضباب حيث تعيش وتعمل، وفي بالها صباحات البيوت وشوارع الطفولة والأمكنة والأهل والأصحاب، ترسمها زينة عاصي مرة بعد مرة.
لا تكف عن مراودة قصصها وحوادثها وتفاصيلها وحكايات ناسها من مقاربات ذاتية وجماعية، لكأن بيروت هي الموضوع والرواية التي لا تنتهي.
وهي ايضا الذاكرة التي تستنطقها وتحملها معها أينما حلّت، مثل سلحفاة تحمل بيتها على ظهرها، أو كثوب تلبسه حتى كاد أن يكون جلداً تُلْبسه على سطوح أعمالها.
لقد اقترن أسلوبها الفني بنسيج بيروت المعماري وفضائها المدينيّ، والتصق بها كبصمة فنية أو كهوية على نحوٍ ما، غير أنها هوية تقع بين الواقع والخيال والحقيقة والهذيان وكائنات الطفولة وألعابها، وبين السرد والنقد الساخر والمأساة.
يستجمع معرض زينة عاصي الذي تقيمه في غاليري تانيت (مار مخايل حتى 3 آب/ أغسطس)، بعنوان “دراسة سحابة”، مجموعة من التجارب، تعود إلى عام 2015 وحتى 2023.
وهي متنوعة الموضوعات والتقنيات والخامات والوسائط، تجمعها هواجس الفنانة في الربط ما بين الذاتي – الاسترجاعي والجماعيّ، وذاكرة التاريخ وحوادثه وميثولوجياته.
يضاف إلى ذلك قراءة تاريخ الفن على أنه حاضر مُقنّع مليء بالإلهام والتجارب.
فهي تستحضر في عملٍ تجهيزي لافت، ظلال كينونة عائلتها بروح طفولية، من خلال شخصيات مصنوعة من القماش ما هي إلا استعارات جميلة لأفراد عائلتها المتحلقة حول طاولة الطعام، بينما تتدلى من السقف ثريا مفككة مكوّنة من الذباب الطنّان لتشهد على محادثة حميمة من الماضي يستدعي الاستفسار حوله.
بلا جدوى تضع الفنانة شخصياتها في منطقة ملتبسة، وهي جالسة تراقب عالمها غير المتّصل في حركته المَتاهيّة التي تطمس الحدود ما بين الواقع والمتخيل.
تستعيد زينة عاصي آثاراً قديمة لمدن مندثرة، تصوغها في قوالب معاصرة، وتشكّلها على أوانٍ خزفية وأعمدة معابد خيالية تحمل على سطوحها حكايات متخيلة، هي بمثابة نقوش طوطمية، تقول الفنانة إن هذه العناصر مستوحاة من مقتنيات المتحف الوطني في بيروت الزاخر بالقطع الأثرية العائدة إلى عصور مختلفة، كفضاء وسيط يتيح الحوار بين الأمكنة والأزمنة.
وبين السخرية والفكاهة واللعب، تحوّل زينة عاصي شخصياتها المرسومة إلى رسوم متحركة في فيلم قصير بعنوان Ecce Homo (ها هو الإنسان) يتكامل مع نقوش ستة أعمال مطبوعة على ورق، مستوحاة من مجموعة كوارث الحرب (1810-1820) للرسام الإسباني فرانشيسكو دي غويا (1746-1828)، وهي نقوش ورسوم رسمها أثناء حرب نابليون على إسبانيا. تأخذ زينة عاصي جزءاً من عمل غويا وتُخرجه من سياقه الأصلي ثم تُدخله في فوضى المدن مع رموز الحروب الحالية لتمثل ما يبدو كأنه أزمة عالمية معاصرة، مستشهدة بعبارة للكاتب الفرنسي جان بول سارتر تقول: “كل كلمة لها عواقب وكل صمتٍ أيضاً”. يُظهر الفيلم رموز السلطة ككائنات متوحشة، كشرٍّ يحوم فوق المدينة، في استرجاع لعنف الحرب وكوارث التاريخ.
فوق سماء بيروت
في التجارب التي تحمل عنوان “دراسة سحابة”، تتراءى بيروت في لمحة عين، منظراً بانورامياً منمنماً لكومة من بيوتٍ مثل “البازل” متراصّة وأبنية متآلفة ومتنافرة بلا نظام.
شوارع وأزقة وحكايات من زخرف العيش وأسرار بيوت تعلو وتهبط متداخلة في نسيج مدينيّ واقعي وحلميّ في آن واحد، مترابط وغوغائي بلا مُتنفس، حيث الأبنية المتلاصقة تكتنفها صحون “الدش” وأنتينات التلفزة ومشهد ورش البناء واللافتات الإعلانية، أما الأبنية التراثية القديمة فتحجبها أبنية حديثة عالية، كل ذلك ينمّ في بعده السوسيولوجي عن العشوائية والضيق المكاني، كما يشير إلى مواقع الخلل بين الإنسان وفضاء العيش.
تظهر أحياناً واجهات البيوت مهزوزة ومِعوجّة من منظور تحريفيّ متعمّد، وكثيراً ما تكون مطابقة للواقع كلقطات فوتوغرافية مُطبّقة على القماش عن طريق الكولاج الورقيّ، مع تعقيبات خطيّة نابعة من قريحة الفنانة وخيالها تعبيراً عن منظر الفوضى.
هكذا نقرأ بيروت كمدينة يصعب العيش فيها، كما يصعب العيش بدونها، مدينة من أفقٍ وبحرٍ ونسائم حب، تربض فوقها الغيوم المحمّلة بالعواصف والرعود والرياح، يتناثر في سمائها رذاذ المطر الأسود ودخان الرماد.
زينة عاصي تعيد نسج تجربة “دراسة سحب” لرسام المناظر الإنكليزي جون كونستبل (1776-1837) الذي طوّر ما بين عامي 1821-1822، هوساً حقيقياً بالغيوم والسماء، وهي تُظهر علاقتها بالأرض من خلال حوار بين مستويين في تكوين المجموعة المؤلفة من أربعين لوحة صغيرة وخمس لوحات كبيرة (بمواد مختلفة)، والتي تشير إشارةً أكثر حميمية إلى مُكوّنين اثنين لكيانٍ واحدٍ هجين وربما خياليّ، بيروت المدينة التي تختنق وتكشف عن خباياها، وإنكلترا البلد المضيف بسمائه اللامتناهية والمتغيرة والمتلبدة. وفي غياب الرسم المباشر من الطبيعة تنقلنا الفنانة من الإسقاطات المباشرة لرومانسية غيوم كونستبل في مناظره الإنكليزية، إلى شكل من أشكال التعبيرية الدرامية في محتواها العاطفي – الدلاليّ، في دراستها لغيوم بيروت الرمادية المتلاطمة المحمّلة بالعواصف والضباب، وعلاقتها بغموض الواقع السياسي والاجتماعي المأزوم، بأسلوب جريء في تفجير الضربات اللونية وتحرير طاقات التلوين من قواعده المعتادة، كما أنها تعيدنا بالذاكرة إلى مشهد الغيمة القرمزية المدمِّرة التي غطت سماء بيروت في الصيف الحارق عقب انفجار المرفأ (الرابع من أغسطس 2020)، فنراها في حركةٍ عملاقة تعصف بالمدينة وتُرعب الأرض بنارها ودخانها، في اقتلاع صادم يشتد فيه الرهاب من قسوة الموت وضراوته وعذاباته.
الرّسم مرادف للشّعور
بيروت تخطف القلب تحت قبة سماء غائمة رمادية وعاصفة يشوبها الحذر أم تبشّر بالمطر؟؟ نمشي في شوارعها، نغوص فيها حتى الأعماق ونرفع رؤوسنا نحو السماء الملبّدة بالغيوم الجاثمة على صدرها، كأننا ننشد شيئاً من الخلاص في نزعة صوفية فلسفية قد تكون مبهمة أو ربما هي موضع شك. فالغيوم في مواكبها وطبقاتها وألوانها وتغيراتها وحركتها هي مادة للتأمل والإلهام، لارتباطها بالطبيعة المناخية وتقلباتها، غير أنها تبدو في أعمال زينة عاصي طبقات أحزان متراكمة بالنور والضباب الأزرق الرمادي وأحياناً الوردي والأصفر، مع الرصاصيّ وألوان الكبريت والرذاذ الأسود الماطر. إنها سماء بعيدة متحوّلة لا نستطيع أن نمسك بها أو نتوقع نبوءاتها، بل يمكن أن نتأملها بإعجاب، بمنطق الحكمة وقوة الاستمرار وفلسفة القدرة على الحياة، ربما على ضوء قول الكاتب مارسيل بروست: “الرحلة الحقيقية الوحيدة، بل الانغماس الوحيد لتجديد للشباب، لن يكون بالذهاب إلى مناظر طبيعية جديدة، ولكن أن تكون لديك عينٌ أخرى”.
تقدم زينة عاصي دراسة لسحابة تظلل الفضاء المديني البيروتي مرتبطاً ليس من مقترب المناظر الطبيعية فحسب، بل من مقتربات شخصية متعلقة بالهواجس التي تجعل الحياة في المدينة غير مستقرة بعيدة من الفرح والتفاؤل، لذا ثمة اجتهادات لدى الفنانة تتجه للتعبير بأكثر من وسيط، وتخوض في أكثر من موضوع، وتتجلى في أكثر من خطاب بصري وانواع خامات للتعبير عن مكنونات النفس التي تتشعب لتخاطب المدينة مراراً وتكراراً.
هذه العودة المهووسة إلى اختلافات السماء ليس الغرض الوحيد منها هو فهم القوانين الفيزيائية للطبيعة فحسب، بل البحث عما هو أعمق في استنهاض المشاعر إزاء الطبيعة، كما يقول كونستبل “الرسم بالنسبة لي، هو مجرد كلمة أخرى، مرادفة للشعور”، والكلمة هي فكرة تندفع وراءها كلمات تتجمع كالغيوم.
لعل المعاودة المتكررة للموقع نفسه تحت تأثير فضاء تسكنه السحب، هي نقطة التلاقي التي جعلت زينة عاصي تدمج بين زمنين مختلفين وموقعين مختلفين في أسلوب متفرّد. تستذكر كونستبل الذي رسم خط الأرض منخفضاً كي يتفرغ لرسم ما تحفل به سماء سوفولك أو برايتون أو هامبستيد، في هوسٍ حقيقي بالغيوم، كما تستوحي أيضاً التقنيات والضربات اللونية (الناعمة والقوية) والمؤثرات التي كان يضخّها ويستخدمها في التقاط اهتزازات الضوء وحركة العواصف وطبقات الألوان والظلال في التعبير عن التأثيرات المرتبطة بالمناخ الجويّ. في القطاع الأرضيّ تبدو مساحات زينة عاصي دوماً مكتظة ومزخرفة في سحرٍ جاذب مليء بالتفاصيل، وهي مشغولة تقنياً بتأثيرات تستنبطها من وسائط متعددة بين الكولاج المتكرر للمشهد المديني والرسم على القماش وطرائق التلوين ورش اللون. في القطاع السماويّ البانورامي يتنقل السديم عبر حواسنا لندرك تنوع دراساتها للسحب، وجرأتها في التلطيخ والتعبير باللون، عن سحر الغيوم كمادة للتأويل والحلم، كونها تحمل صفات التبدل والتلاشي، لا يمكن للمرء أن يتخيل التنوع اللامتناهي لبيروت حين يكون الحوار بين السماء والأرض مليئاً بالوعود.
المصدر: بيروت- النهار العربي
مهى سلطان