من يقصد غاليري صفير زملر (الكرنتينا) لرؤية معرض الفنان ريّان تابت، سيجد نفسه مغموراً بسديم اللون الأزرق على غير عادة، وتحت وطأة هذا الخفاء والتمويه واللّبس المتعمّد، يقودنا العمل التجهيزي الذي يقدمه الفنان، الى ثماني واجهات غير متصلة، تعرض صوراً ضخمة.
هذه الصور عبارة عن لقطات مكبّرة لقطعة رخامية واحدة هي لرأس ثور، لندرك بأن هذه القطعة الأثرية مرتبطة بقصة يكشفها الفنان للمرة الأولى عبر الوثائق والمستندات الرسمية، التي تشير الى مسار طويل من رحلة التّتبع للأثر الذي سُرق وهُرِّب وأُخفي طوال 50عاماً ثم أعيد الى المتحف الوطني في بيروت.
هذه الرحلة تأتي بعد اكتشافه لآثار “تل حلف” (تقع في شمال سوريا على ضفة نهر الخابور) العام 2016 ، وهذا الموقع الذي توجد فيه مدينة “غوزانا” التاريخية المذكورة في الإنجيل غني بالآثار الآرامية، سبق وشَهِد عليها جدّه فايق بوركوشي وكان ترجماناً عيّنته سلطات الانتداب الفرنسي في بيروت عام 1929، سكرتيراً للمستشرق والمنقّب الأثري الألماني ماكس فون اوبنهايم (1860-1946)، لجمع المعلومات عن الحفريات، التي أسفرت عن اكتشاف أكبر كنزٍ أثريّ يعود الى أحد مقرات الأمراء الآراميين وهي تعود للألف الأول ق.م. غير أن هذا الكنز لم يبقَ منه سوى “شظايا”، وهو موضوع معرضه السابق الذي كشف الفنان من خلاله عن قصة تربط عائلته بالشخصيات التاريخية الكبرى، وطرح فيه أسئلة مصيرية حول بقاء المقتنيات، والحفاظ على التحف الأثرية، والاستيلاء الثقافي الذي تمارسه المتاحف الدولية.
بين الأثر والذاكرة
لطالما أثارت عروض الفنان ريّان تابت وأعماله التجهيزية الجدل لفرط ما تكشفه عن خفايا الماضي وملابساته وعلاقاته التشابكية مع الحاضر لا سيما في ما يتعلق بمسائل الأثر والذاكرة والتاريخ والهوية.
وفي المعرض الذي يقيمه حالياً تحت عنوان “العودة” (يستمر حتى 19 آب/ أغسطس)، يتتبع رحلة منحوتة رخامية، تعود الى العام 360 ق.م. تم اكتشافها خلال إحدى عمليات التنقيب التي أجريت في معبد أشمون الواقع في مدينة صيدا في تموز (يوليو) العام 1967.
قبل شهر واحد من ذلك الاكتشاف، في حزيران (يونيو) من العام نفسه، كانت آثار الحرب العربية – الإسرائيلية قد انعكست على الشرق الأوسط بأكمله، ليس ذلك فحسب بل تركت بصماتها على ذاكرة جيل بأكمله عاش مجريات النكسة أو الهزيمة العربية بكل ما تحمله من تداعيات ما زالت محسوسة حتى اليوم.
لقد أحدثت حرب الأيام الستة تغييرات جذرية في مشهدية المنطقة العربية، وفي ذلك الوقت تم فرض حظر تجوّل اقتضى بإطفاء جميع مصادر الضوء من أجل الحدّ من التعرض للغارات الجوية التي كان يشنها العدو الإسرائيلي، ومن أجل ذلك بدأ الناس في طلاء نوافذ شققهم ومصابيح سياراتهم الأمامية باللون الأزرق لتصبح أقل وضوحاً خلال ساعات الليل.
في ظلال الأزرق
إنه ليس أزرق ايف كلين التّخيليّ والروحانيّ، بل أزرق ريّان تابت الملغّز الذي انتشله من قعر ذاكرة جيل ستينيات القرن العشرين، كي يخيم على فضاء المكان ويغمر صباحه بعتمة المساء.
إنه أزرق التّيه وانكسارات الأحلام لدى جيل المواجهة الذي ذهبت طموحاته وأحلامه سدى لتؤول قضيته الى الخسران.
ورغم أن تابت لم يكن شاهداً على تلك المرحلة، لكنه استعادها من الماضي كحدث في الحاضر، كمناسبة للتأمل في هذا التقاطع الزمني بين حدثين مختلفين، قام بربطهما ربطاً جيوسياسياً ومفاهيمياً Conceptuel، في استبطان المعنى الكامن بين نهب الأثر والفقد والضياع والتضليل، وهو يستكشف حياة قطعة أثرية عبر ثمانية فصول تتوالى في حلقة كرونولوجية تعيد بناء منحوتة رأس الثور التي سافرت عبر القارات والأزمنة والبحار.
وفيها استخدم مادة الضوء عبر مصابيح متدلية من السقف ابتكرها الفنان، كقطع نحتية شبيهة بمصابيح السيارات كوسيط يغمر فضاء المكان باللون الأزرق، برمزيته الدالة على الخفوت وطمس الحقائق.
هكذا يعيد الفنان بناء أجزاء القصة من خلال الصور الفوتوغرافية وبيانات عمليات التنقيب وتقارير الشرطة وفواتير المبيعات ووثائق الشحن والبيانات الجمركية…، والأوراق المقدمة من المحكمة العليا في نيويورك كجزء من التحقيقات التي جرت بين عامي 2017- 2021، في محاولة لتلخيص خمسين عاماً من حياة قطعة أثرية، لطالما كانت محجوبة بسبب قانون منح العفو العام الذي صدر في نهاية الحرب الأهلية اللبنانية.
إنها ليست قصة بوليسية بل وقائع يرويها الفنان حين صادف إقامة معرضه في متحف الميتروبوليتان في نيويورك مع اكتشافه لخلفيات التحقيقات في سرقة رأس الثور (من لبنان)، لذا قام بتشريح حكاية اختفاء وظهور تلك القطعة الأثرية التي اكتسبت شهرتها بعد السرقة.
ولعل أهمية المعرض تتجلى بالطابع التوثيقي، الذي يطغى عليه في سياقات السرد البصري وأدواته وجمالياته غير المألوفة. فالبحوث التي يقودها ريّان تابت كثيراً ما يكون مقرها عروضاً في المتاحف الدولية (متحف اللوفر- باريس، والميتروبوليتان- نيويورك ومتحف كالاي- نيم وباراسول للفن المعاصر- لندن ومتاحف أخرى في هامبورغ وسيدني والشارقة وإسطنبول)، لأنها تأخذ منحى ثقافياً وفكرياً بالدرجة الأولى مغايراً للسائد في توجهاته ومقاصده وجمالياته، كمن يحفر في أركيولوجيا الذاكرة الجماعية بحثاً عن كنوز الماضي المفقود في غياهب النسيان بهدف تعزيز مسائل الاسترداد للممتلكات الأثرية.
اختفاء وعودة
كانت القطعة الرخامية لرأس الثور، التي اكتشفها عالم الآثار الفرنسي والمتخصص في الشرق الأدنى القديم موريس دونان قد قضت آلاف السنين مدفونة تحت الأرض من دون أن يمسّها أحد.
ولكن خلال فترة امتدت لنصف قرن وتحديداً بين عامي 1967 و2017، انتقلت القطعة الأثرية من صيدا الى جبيل، ثم اختفت لأكثر من ثلاثة عقود، لتعود وتظهر ضمن مجموعة الآثار اليونانية والرومانية في متحف ميتروبوليتان للفنون في نيويورك.
وبعد خمسين عاماً من ظهورها أُلقي الضوء مجدداً على المنحوتة بعد أن تم رفع دعوى قضائية بهدف تحديد مالكها الشرعي، تمحورت القضية حول ما إذا كانت الصور الفوتوغرافية الأربع التي التقطها فريق دونان في العام 1967 وتلك الأربع التي التقطها مكتب المدعي العام في مدينة مانهاتن في العام 2017 تعود للقطعة الأثرية نفسها، وهذه الصور الثماني قد شكلت محتوى معرض تابت.
بحسب المصادر اللبنانية فإن هذه القطعة المنهوبة هي من بين خمسة تماثيل تم الكشف عن ثلاثة منها بعدما رصدها متحف ميتروبوليتان حيث كانت مُعارة له من جامعِ تُحَف (لم يُكشف عن إسمه)
ومن بين الشخصيات الأساسية التي ساهمت في إعادة التماثيل الأثرية الى لبنان مساعد المدعي العام في مانهاتن: ماثيو بوغدانوس، وهو جندي سابق في حرب العراق قاد التحقيق في عمليات النهب التي تمت في المتحف الوطني في بغداد، خلال الفوضى التي رافقت غزو الولايات المتحدة الأميركية للعراق للإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين.
وقد سبق وأقيمت مراسم إعادة القطع الاثرية الى المتحف الوطني في بيروت في حفلٍ تم عام 2018، بحضور بوغدانوس الذي ساهم مكتبه في استعادة آلاف القطع الأثرية المسروقة طوال السنين الماضية.
يعود تاريخ التماثيل إلى فترة زمنية بين القرنين الرابع والسادس قبل الميلاد عندما كانت الإمبراطورية الفارسية تحكم الحضارة الفينيقية التي كانت وقتئذٍ متأثرة بالفن والثقافة اليونانيتين.
ومن بين أكثر من 500 تمثال منهوب من معبد أشمون لم يتم التعرف إلا إلى عدد قليل وإعادته إلى لبنان. وفي معرض تابت يوجد ثبت لمجموعة كبيرة من صور الآثار المنهوبة، وهي تحيط برأس الثور حتى تكاد تُخفي ملامحه كأنها تتلبس حكايته غير أن مصيرها ما زال مجهولاً.
المصدر: النهار العربي – مها سلطان