هي خريطة كاملة رسمها الروائي زياد كاج لمنطقة الصنوبرة البيروتية. مركز هذه الخريطة بناية “تي.في. تاكسي” العامرة بسكن عائلات يزيد عددها عن الأربعين. بالتفصيل نقرأ الكاتب وهو يفتح أبواب المبنى جميعها، وإن بقدر متفاوت من التحفّظ، لينقل لنا صوراً ومشاهد من حياة الساكنين، فإضافة إلى كثرتهم، هم متنوّعون من حيث انتماءاتهم الاجتماعية والطائفية، كما من حيث مجيء بعضهم إلى لبنان من بلدان مثل أرمينيا، كما من مصر أيضا حيث تذكّرني عائلة مصرية مقيمة هناك بعائلتين مصريتين أقامتا في بنايتين متقاربتين في منطقة الصنائع، حيث كنت أقيم.
كان الرجلان يشتركان مع ساكن «تي. في. تاكسي» بتحيّنهم، هم الثلاثة، كل فرصة لهجاء جمال عبدالناصر، الذي أمّم مصانعهم وممتلكاتهم، وهذا ما دفعني إلى المغالاة في تخيّل أن في كل بناية من بنايات بيروت المترفة، من غير ثراء زائد، يقيم وافد مصري هارب من نتائج التأميم.
أما الرجل الأرمني في بناية «تي.في.تاكسي» ويطلق عليه لقب كوكو، فموجود مثيله في كلّ من المباني البيروتية، أعني في ذلك الزمن الذي يصنّفه الكاتب زمنا أوّل يسبق زمنين أعقباه. ذاك هو زمن الإختلاف في كل شيء، ليس فقط في ما خصّ منابت المقيمين، بل يصل أيضا إلى مظاهرهم وطبائعهم ومِهَنهم ودرجة التعليم التي تحصّلت لهم، لكن دائما هناك الموَدّة التي تجمع بينهم على الرغم من ذلك الاختلاف. مرّات كثيرة نقرأ في الكتاب عن الباب المفتوح لبيت الناطور ليدخل من يشاء من الساكنين إلى الغرفة الموصوفة بدقة، وليشارك نازليه طعامهم وسمرهم.
كل مكان يحيط بالمبنى جرى وصفه وتحديد موقعه في نواحي الجهات الأربع، التي تحيط بالمبنى. وهذه ليست مجرّد أبنية تتوزّع عليها البيوت ومحلّات البيع، بل هي مراكز لاحتضان الطموح المستقبلي وترقّب التطور الاجتماعي وتماهي ضيّقي الحال مع صور الرفاهية الزاهية المبثوثة هنا وهناك. قرب خطوات من بيت الناطور الفقير هناك بيوت عامرة تغوي مشاهدتُها أولادَه. هناك أيضا سوبر ماركت «كراولن» الحديث الفخم، الذي يصف الكاتب، ابن الناطور، زيارته الأولى له مندهشا على الدوام، من درجة الاختلاف بينه وبين دكان الحيّ، الذي يشتري منه الناس احتياجاتهم. هناك مركز التجميل أيضا، الذي يضمّ بين مقاصفه مقهى وناديا رياضيا والذي، لاتساعه وأناقته، لا يحلم الراوي حتى في الدخول إليه. ثم هناك شارع الحمرا القريب وقد ضُمّت سينماته ومقاهيه إلى الغوايات المكانية غير البعيدة من شارع الصنوبرة. بذلك لم يخرج الكاتب من الحدود التي رسمها لخريطته فدائما كان شارع الحمرا وتفرّعاته مقصد جيرانه ممن شعروا بأنفسهم مدعوّين إلى ارتياد الفتنة التي يتيحها. ثم إن هناك اسما واحدا يجمع بين المكانين، الصنوبرة وشارع الحمرا، هو «رأس بيروت» ليفخر الساكن في أولهما بانتسابه إلى الثاني.
وعلى الرغم من أن مبنى «تي. في.تاكسي» لم يُكرِه فقراء النازلين فيه على أن يتغيّروا ليصيروا مستحقّين لسكناه، لقد حافظ بعض هؤلاء على طرق عيشهم القروية، بل هم جعلوا الآخرين يطلبون الخبز المرقوق والفراكة الجنوبية من زوجة الناطور أبو رياض، وهو والد الكاتب. بما لا حصر له من التفاصيل ينقل لنا زياد كاج نعيم إقامته طفلا في ذلك العالم الذي، إن لم يتوافر فيه كل شيء، فهو يعد بكل شيء. لكن ذلك، في واقع بيروت لم يكن إلا حقبة لن تلبث أن تضيع. بل إن المبنى، والمنطقة التي حوله، استبقت اندلاع الحرب الأهلية في 1975 بعملية اغتيال ثلاثة من قادة فلسطين، ثم هناك الحرب ذاتها التي أدخلته في تغيّر متمادٍ تحوّلت سيرته معها إلى انهيار دراماتيكي متصّل.
وقد ظلّ الكاتب، من سكنه في المبنى، حريصا على وصف كل تغيّر يحصل للبيوت ومدخل البناية وشرفاتها وكل ما يخرج منها أو يتفرّع عنها، كما لأحوال الساكنين ومصائرهم. في “تحقيبه” للمراحل التي مرّ بها المبنى يقول إنه شهد تتالي ثلاثة عهود عليه، أرجع كل واحد منها إلى انتقال إدارة المبنى من مدير إلى مدير آخر أتى من بعده، إضافة إلى القتال الدائر المستمر وما يأتي به من خراب.
تستمر المتابعة المستمرة لأحوال المبنى لما يقرب من ستين سنة، ظلّت فيها يد الكاتب تعمل على ملاحظة أحواله المتغيّرة، لم ينهكه الحرص على جعل السيرة التي تولّى كتابتها تامة غير مفوّتة لتفصيل. هي سيرة كاملة سمّت الأشخاص بأسمائها الحقيقية، وكذلك أسماء الأبنية والمحلات والأماكن. وكل ذلك بصراحة لا تتحرّج من جعل ذلك واقعا في باب الاعتراف. لكن رغم ذلك أمكن للكاتب أن يظهر كتابه كعمل روائي، أقصد خصوصا توسيعه فصول الختام لتشمل ما عانته أكثر الشخصيات من آثار الحرب ونكباتها، ثم إن الحزن الملازم للقراءة في تلك الفصول يُشعرنا بأننا إزاء مصائر تهاوت، سواء تعلٌّقت بالبشر أو بالأبنية أو حتى بالهواء الذي سوّد المدينة كلها.
معا مع ذلك الحرص على التفاصيل أمكن لزياد كاج أن يعمّق شعورنا بنكبة بيروت. وكما هو مذكور أعلاه كان ما قرأناه حاملا لسيرة ذات طبيعة روائية. هكذا تنتهي أحوال الأمكنة وأعمارها على كل حال، حزينة ومؤلمة كما ينبغي لمرثية شاملة.
*بناية تي.في.تاكسي – سيرة مكان للكاتب زياد كاج صدرت عن دار نلسن تقع في 221 صفحة – سنة النشر 2023.
المصدر : القدس العربي- حسن داوود