عبد الرزاق أفندي أبو ياسين اليتيم الذي صار ضابطاً في الجيش العثماني وقاتل الجنرال غورو في ميسلون(4 من 4)

الصورة : الضابط عبد الرزاق أبو ياسين خلال دورية في شتورة مطلع الأربعينيات

خاص – nextlb
عاطف البعلبكي
هزيمة المشروع العربي بعد ميسلون والعودة الى الوطن
إنتهت المعركة – المجزرة التي نفذها الجيش الفرنسي في ميسلون ، وبدأ “الحل السياسي” الفرنسي ، بإلغاء سلطة الدولة العربية الحديثة السن في بلاد الشام ، وبإقامة حكم الإنتداب وبتسريح ضباط الجيش العربي كلهم ، من شارك منهم في معركة ميسلون ومن لم يشارك . وتم تقسيم بلاد الشام ، وفصل لبنان عن سوريا وأعيد جمع العسكريين تحت ظل الإنتداب الفرنسي ، وفي هذه المرة لم يكن حظ الضابط عبد الرزاق بأفضل من المرة السابقة ، إذ لم يتم قبوله كضابط في دمشق ، وتم ترحيله الى “لبنان” ، لأنه كان مولوداً في البقاع بحسب هويته العثمانية والذي صار جزءاً من الدولة الوليدة ، هذا ال “لبنان” الذي كان تشكل حديثاً ككيان سياسي تحت مسمى “دولة لبنان الكبير” حسب مسمى الجنرال غورو ، والذي يصادف في هذا العام مئويته الأولى (1919- 2019) ، وتحتفل الدولة اللبنانية رسمياً به كمناسبة وطنية.

الصورة : راجع النص لمعرفة أسماء الضباط في الصورة أعلاه ..والرائد المتقاعد عبد الرزاق الثاني من اليمين وقوفاً . مؤرخة في عام 1947

تحت سلطة الإنتداب الفرنسي
وهنا لا بد من إطلالة تاريخية على حقبة الإنتداب الفرنسي للإحاطة بالظروف السياسية والمعيشية التي واجهت اللبنانيين ، فقد كان الإنتداب الفرنسي على لبنان إحتلالاً فرنسياً مقنّعاً ، بدأ فعلياً منذ عام 1920 وإمتد حتى عام 1943 ، وهي الفترة التي حكمت فرنسا لبنان فيها بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وسقوط الأمبراطورية العثمانية ، وتبعاً لإتفاقية سايكس- بيكو التي صدرت بقرارات من عصبة الأمم في عام 1920 تم تقسيم تركيا ، الدولة العثمانية المنهارة بحجة المساعدة في إنشاء مؤسسات للدول الجديدة ، وكانت متصرفية جبل لبنان مقاطعة عثمانية مستقلة عن بقية الولايات ، فقام الفرنسيون بضم عدد من المدن الساحلية ، وجبل عامل ، وسهل البقاع والسهول الشمالية اليها لتتوسع وتصبح قابلة للحياة ، ولتصير ما أطلق عليه الجنرال غورو نفسه الذي غزا دمشق وقصفها بالطيران ” دولة لبنان الكبير”. (عن موسوعة ويكيبيديا)
ويضيف الراحل أبو منير (الإبن البكر للضابط عبد الرزاق): ” وفي لبنان الذي صار كذلك تحت الإنتداب الفرنسي في مطلع العشرينيات ، وجد الشاب عبد الرزاق نفسه بلا عمل وبلا وظيفة يعيش منها وسط مجتمعه الزراعي والضائقة الإقتصادية الخانقة التي كانت تضرب منطقة البقاع خصوصاً ولبنان عموماً ، ولما كان قد حصل على معلومات هندسية مهمة خلال دراسته كضابط مهندس ، فقد قرر أن يشتغل في إختصاص المساحة ، ويبدو أنه لم يوفق – كالعادة – فعاد الى طرق أبواب الحياة العسكرية مجدداً ، ولكن هذه المرة في القوى المسلحة و”الجندرمة” التي تشكلت تحت سلطة الإنتداب الفرنسي على لبنان في عام 1920 ، وتقدم ليشغل وظيفة ضابط برتبته التي كان يحملها في الجيش العربي ، وقبلها في جيش الدولة العثمانية ، فرفض طلبه في البداية ، ثم جاء الرد على طلب الإنتساب الذي قدمه بأنه قد يقبل برتبة “أسبيران” Aspirant (مرشح لرتبة ضابط) إذا قبل هو بذلك ، ولكن الضابط العصامي رفض أن تكسر رتبته كعسكري وكضابط محترف ، وبخاصة أنه كان يحمل إختصاصاً في الهندسة ، ليتنازل بعدها فيوافق مكرهاً بعد انعدام الخيارات لديه في زمن القحط والجفاف الذي أعقب نهاية الحرب العالمية الأولى التي ألقت بظلالها الثقيلة على المنطقة العربية ، ثم ليفاجأ في وقت لاحق بأن رتبة “أسبيران” لم تعد في متناول يده ، ليعود ويقبل محبطاُ ومرغماً برتبة “شاويش” تحت وطأة الضائقة المعيشية وضيق ذات اليد ، وسوء الأحوال الإقتصادية في لبنان بشكل عام ، وفي البقاع موطنه وموطن أهله و أجداده بشكل خاص .

الصورة: الضابط أبو ياسين يتقدم وفد البلدة لتهنئة النائب الراحل ناظم القادري في إحدى المناسبات في بلدة البيرة البقاع – راشيا

من سلطة الإنتداب الى الدولة اللبنانية
ويكمل القصة إبنه الثاني الضابط المتقاعد من قوى الأمن الداخلي رياض ليقول مستعيناً بالصور القيمة التي زود التحقيق بها ، وليحكي كعسكري محترف : ” بقي والدي عبد الرزاق برتبة “شاويش” في الخدمة لتتم ترقيته الى رتبة “أسبيران” ولينتظر خمسة أعوام كاملة حتى ينال الترقية الى رتبة ضابط ، كان يحملها أصلاً في الجيش التركي ، ثم في الجيش العربي تحت قيادة الأمير فيصل بن الحسين ، (تحت إمرة القائد يوسف العظمة الذي كان قد تخرج كذلك من المدرسة الحربية في اسطنبول أيضا) .
وبالمحصلة فقد بدأ الضابط عبد الرزاق تاريخه العسكري من جديد متدرجاً تحت سلطة الإنتداب الفرنسي للبنان من رتبة “شاويش” في الدرك في العشرينيات ، الى رتبة “أسبيران” ثم رقي الى رتبة ملازم ثان ، ثم إلى رتبة ملازم أول ، ثم مع انتقال السلطة من الإنتداب الفرنسي الى الدولة اللبنانية بعد الإستقلال في عام 1943 كان أحد أبرز الضباط اللبنانيين الذين كانوا يعدون على الأصابع في سلك الدرك اللبناني ، ولما عين في عداد هذا الجهاز ، كان السلك العسكري مجتمعاً يضم حوالي 40 ضابطاً فقط ، وفي السلك خدم الضابط عبد الرزاق في معظم المناطق اللبنانية ، فعين آمراً لفصيلة راشيا في عام 1934 حين كان النقيب فؤاد شهاب (الذي تدرج فيما بعد الى رتبة لواء وصار أول قائد للجيش اللبناني في عام 1945 ، ثم رئيساً للجمهورية في عام 1958) قائداً لموقع قلعة راشيا في الجيش اللبناني ، ثم في منطقة بعلبك والهرمل حتى عام 1936كآمر لفصيلة الهرمل ، وشارك كذلك في مطاردة أحد أبرز الخارجين عن القانون الشهير ملحم قاسم في جرود بريتال ، وكان قد تزوج وولد له إبنه البكر عدنان (المربي والمعلم الراحل) في الهرمل ، ومن ثم إنتقل الى بلدة مشغرة في البقاع الغربي في عام 1936 ثم الى بعبدا في أعوام 39 – 40 ، وفي مركز بعبدا درب العديد من الضباط المميزين الذين صاروا فيما بعد من الضباط القادة ، ومنهم قائد معهد قوى الأمن يوسف الحركة ، والضابط جوزيف مجاعص ، والعقيد حنا أبو شقرا الذي صار فيما بعد رئيس أركان قوى الأمن الداخلي .
أما الزي الذي كان معتمداً لسلك الدرك تحت سلطة الإنتداب ، فكان الزي الفرنسي مع تعديلات طفيفة وأرزة على القبعة ، وكان زي الضابط مميزاً طبعاً بالرتب والقبعة واستخدام الخيل في الدوريات .

الى التقاعد
وتقاعد الضابط عبد الرزاق برتبة نقيب قديم من سلك الدرك ، ونال رتبة رائد متقاعد في عام 1947 أي بعد حوالي سنتين من نهاية الحرب العالمية الثانية ، وبعد استقلال لبنان في عام 1943 بأربع سنوات ، وكان حينها يشغل مركز آمر فصيلة حمانا حيث صدر مرسوم تقاعده لبلوغه السن القانونية (وكان يبلغ حينها من العمر 55 عاماً ) في مطلع تموز يوليو من نفس العام 1947 وفي عهد الرئيسين بشارة خليل الخوري و رياض الصلح .
وشمل مرسوم التقاعد حينها كوكبة من القادة (الصورة المرفقة أعلاه) وهم : العقيد الياس الحداد قيم الدرك ، العقيد نسيب دحروج قائد فوج بيروت ، المقدم جورج صوايا قائد كتيبة البقاع ، المقدم محمد درويش رئيس مصلحة اللوازم ، المقدم نجيب علوية قائد كتيبة بيروت السيارة ، النقيب جورج عرموني قائد فصيلة زحلة ، النقيب عبد الرزاق ياسين (أبو ياسين) قائد فصيلة حمانا ، الملازم أول نور الدين حشيشو قائد فصيلة صيدا السيارة .
وصدر المرسوم يومها بتوقيع وزير المالية محمد العبود، ووزير الداخلية حينها (الذي سيصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية اللبنانية في عام 1952) كميل شمعون ، وقائد الدرك اللبناني العقيد جميل الخطيب .
وبعد تقاعد الضابط العصامي الملتزم الذي عاصر حقبات مختلفة مرت على لبنان وأهله ، يعود عبد الرزاق الى قريته ويهتم بأرضه وبزراعتها بشكل حديث ومتقن ، ويعيش مع أهله وأقاربه ، ويهتم بنشاطاتهم الإجتماعية والسياسية كقائد مجرب عايش عهوداً عدة من الحكم العسكري والمدني ، وينخرط في الشأن الإجتماعي ، ليكون من وجهاء البلدة وأعيانها والمطالبين بالإهتمام بها من قبل الدولة اللبنانية والسلطات المحلية ، الى أن وافته المنية في عام 1982 رحمه الله تعالى وأحسن إليه .
هذه ذكرى قيمة لرجل إستثنائي من بلدة المنارة البقاعية ، أخذت طريقها للتدوين لتبقى ماثلة في الأذهان ولايطويها النسيان .
[email protected]
للإطلاع على الحلقات السابقة إضغط هنا
مصادر ومراجع
=========
– موسوعة ويكيبيديا الإلكترونية
– خيرية قاسم : الحكومة العربية في دمشق ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1971
– جلال يحيى : العالم العربي الحديث ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ 1985
– علي سلطان : تاريخ سورية (حكم فيصل بن الحسين) ـ دار طلاس ـ دمشق 1987
– صلاح العقاد: المشرق العربي المعاصر ، مكتبة الأنجلو – مصرية ـ القاهرة 1979
– إسلام أون لاين: ميسلون

لمشاركة الرابط: