في ضوء التحولات والمتغيرات الهائلة التي طرأت مؤخراً على مشهد المشرق العربي، وأعني بالتحديد دول العراق وسوريا ولبنان، فإنّه يبدو أنَّ ما جرى حتى الآن هو واعدٌ ومبشّر، لكنه يحتاج للمزيد من العمل وتضافُر جهود أخرى أساسية، وتحديداً عربية، تكون داعمة لذلك، لاسيما وأنّ هذه المنطقة لاتزال تحت وطأة:
1) استمرارِ حدّةِ حروب الإبادة الجماعية المتوحشة والمدمرة التي تشنّها إسرائيل على غزة والضفة الغربية وعلى لبنان، وحيث تُشهرُ إسرائيل فيها سلاح تَفَوُّقِها العسكري والتكنولوجي والاستخباراتي، وكذلك نفوذها السياسي الدولي.
2) استمرارِ النفوذ الإيراني، وذلك بالرغم مما طرأ عليه اخيراً من تراجع، في التمسّك ببسط سلطتهِ وتسلُّطِه على عدد من دول المشرقِ العربي، معتمداً على أذرعه وعلى سرديته اللفظية في الدفاع عن القضية الفلسطينية، ومتابعاً نهجه في إلهاب التطرف والتشدّد، واعتماد النعرات الطائفية والمذهبية التي كانت ولاتزال تسهم في شرذمة القوى والطاقات العربية، وتحولُ دون استعادة القرار الحر للدولة الوطنية العربية، وتنفيذ سياساتها المستقلة في بلدانها.
3) استمرار أزمة الدولة الوطنية العربية في بلدان المشرق العربي بسبب السردية والممارسات التي تضع المواطنين في هذه الدول أسرى اختيار صعب: إما القبول بالحكم الديكتاتوري، أو القبول بسيطرة الأصوليات الدينية التي تستقي شرعيتها واستمرارها، في العادة، من المظلوميات التي تتسبب بها الأنظمة الشمولية لشعوبها، ومن التدخلات الخارجية. ولذلك، فقد عجزت تلك الدول العربية عن تلبية متطلبات إقامة الدولة الوطنية الحديثة التي يتحقق فيها التلاؤم مع مبادئ وقواعد المواطنة والحكم الديمقراطي الرشيد الحاضن لجميع المكونات الوطنية، والذي يُفْترضُ به أن يعزّز جهود النهوض الوطني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي في تلك الدول.
4) استمرار حدّة الصراعات الداخلية المباشرة، والأخرى بالوكالة في هذه البلدان، وذلك مترافقاً مع تفاقم سوء الإدارة وعدم كفاءتها، وتفاقمِ الأوضاع السياسية والأمنية، وتدهور وتراجع معدلات النمو الاقتصادي والتنمية المناطقية مع ازدياد حدّة التزاوج ما بين الانفجار السكاني، والانتقال الكثيف من الريف إلى المدينة، ومع تقلّص فرص العمل الجديدة، وذلك كله بالتلازم مع ارتفاع مستويات الديون السيادية لدى هذه الدول وازدياد أعبائها. وقد أدّى ذلك بمجموعه إلى ارتفاع معدلات الفقر وازدياد حدَّة التفاوت الشديد في المداخيل والثروات بين الأغنياء والفقراء في تلك الدول، بما يعنيه ذلك من تراجعٍ في مفاهيم ومعايير العدالة الاجتماعية.
5) ازدياد أعداد ومجاميع النازحين والمهجَّرين قسراً عن ديارهم في هذه الدول بصورةٍ غير مسبوقة.
تفاعلِ مجموعاتٍ من العوامل والأسباب الداخلية والخارجية أوصلت البلدان العربية إلى هذه الأحوال البائسة
في خضم تلك الصدماتِ والتحدياتِ المحلية والإقليمية والعالمية التي باتت تعاني منها دول المشرق العربي، لا يَعرفُ أحدٌ على وجه اليقين متى يصير الأمر إلى شيءٍ من الهدوء، يتيح لهذه الدول إمكانية أن تتقدّم نحو تحقّق السلام العادل والشامل، والقائمِ على حلّ الدولتين وحق الشعب الفلسطيني في التحرُّرِ من الاحتلال الإسرائيلي، وحقه في أن يكون له وطنه ودولته السيّدة والحرّة والمستقلة. ومتى يُمكن أن تتمكّن هذه البلدان بالتالي من تحقيق تقدّم مستدام على مسارات النهوض المنشود والمسْتَحَق لها وللإنسان العربي فيها.
في هذا الخضم، تُطرحُ أسئلة كثيرة لماذا حصل كل هذا؟
هنا تجدر الإجابة على سؤال مركزي مُلح، وهو لماذا فشلت تلك الأنظمة العربية في إقامة دول على أساس فكرة المواطَنة، والتي في غيابها غابت الديموقراطية والمشاركة الصحيحة، وطغت فيها الاعتبارات القبليّة والطائفيّة والجِهويّة والمصلحية التي تحميها سلطات قمعيّة اعتمدتها القيادات المتحكمة، والتي همها الأساس، وفي الغالب، تأبيد سيطرتها على مواطنيها، وغالباً بدعمٍ وتدخلٍ من الجهات الخارجية.
فؤاد السنيورة – عروبة 22