اعتاد الغرب الأوروبي والأميركي، أن يفتتح أي نقاش لسياسة حكومات اسرائيل ولحروبها واعتداءاتها على الشعب الفلسطيني أو أي شعب عربي آخر، باستحضار سردية الهولوكست، وهي جريمة أدت الى قتل مئات الآلاف ( بعض الأرقام تصل الى 2 مليون ) من السكان اليهود في دول أوروبية مختلفة، واقترفتها المانيا النازية وايطاليا الفاشية بين سنتي 1940 و1945 في نهاية الحرب العالمية الثانية…
حدثت المحرقة اليهودية كتتويج عنيف لممارسة “الحل النهائي” على أيادي النظام النازي، للمسألة اليهودية، هذه المسألة التي واجهتها الأمم الاوروبية، كظاهرة ثقافية وفكرية ونزعات نفسية إجتماعية، تم التعبير عنها ب “معاداة السامية” وهي ظاهرة تراكمت عبر مئات السنين، وانبثقت من عقائد دينية مسيحية، أهمها دور اليهود في التحريض على صلب السيد المسيح، ولم تعلن البابوية تبرئة اليهود من دم المسيح الا في منتصف القرن الماضي، كما انبثقت من وقائع واشكالات اقتصادية ومهنية، وادت الى اشهار العداء لليهود والقيام بالاعتداء على احيائهم ومصالحهم، ونبذ التعايش معهم او مخالطتهم، والقيام بعزلهم، على صعد اجتماعية واقتصادية وثقافية…
وباختصار شديد فان “معاداة السامية” هي ظاهرة عنصرية غربية وأوروبية ومسيحية انتشرت في اوروبا وتفاقمت في اوروبا أيضا، لتصل الى جريمة الهولوكست التي ارتكبتها المانيا النازية وايطاليا الفاشية، ولم يكن للعرب او المسلمين او شعوب الشرق الاقصى في الهند والصين وحتى اليابان، أي تدخل أو تواطؤ أو مساهمة فيها، لا في “معاداة السامية” كظاهرة عنصرية سياسية فكرية واجتماعية، ولا ب “المحرقة اليهودية” كجريمة إبادة جماعية!!
على العكس تماماً فعلى مدار التاريخ، ، منذ انطلاق الدعوة الاسلامية، التي اعترفت بالمسيحية وباليهودية كأديان سماوية، وجعلت من صلب عقيدتها الاعتراف ببتولة مريم وعذريتها وبرسالة المسيح، وبنبوة أنبياء اليهود من إبراهيم وإسحق وإسماعيل، الى موسى وسليمان الحكيم، منذ بداية الدعوة في بداية القرن السابع الميلادي، وحتى نهاية الخلافة العباسية والدولة الأموية في الأندلس على أرض إسبانيا في نهاية القرن الخامس عشر، وعلى مدى ثمانية قرون، عاش اليهود بأمن وسلام داخل المجتمعات الإسلامية المختلفة ، وشغلت بعض نخبهم مواقع هامة في صلب دواوين الخلفاء والسلاطين المسلمين، وبعد انهيار ممالك الأندلس الأموية، تَعَرَّضَ اليهود والمسلمون على حد سواء، لاضطهاد محاكم التفتيش المسيحية الأوروبية، واضطروا أن ينزحوا مع المسلمين الى بلاد المغرب العربي، وأن يمكثوا داخل المجتمعات العربية الإسلامية في المغرب وليبيا والعراق واليمن ومصر وسورية، ودام ذلك دون مشاكل تذكر، حتى انطلاق المشروع الصهيوني لإقامة دولة الكيان في فلسطين.
ف “معاداة السامية” لا شأن للعرب بها ولا مساهمة لهم بها، لان الحقيقة ان العرب هم ساميون ايضا وبنفس درجة انتماء اليهود للسامية.
لكن أشهار معاداة السامية في وجه كل منتقد لسياسة حكومات اسرائيل وجرائمها، هو تكتيك خبيث يخرج اسرائيل وأفعالها الشائنة من دائرة المحاسبة والنقد، ويحميها داخل ملجأ الضحية والمظلوم، ويضع من يسائلها في موقع الاتهام بالعنصرية والوحشية، ولذلك تستطيع اسرائيل أن ترتكب أفظع الجرائم دون خشية من حساب.
فهل يجهل الغرب الأوروبي والأميركي هذه الحقائق التاريخية!؟ أم يتجاهلها !؟
من المسلم به أن إدراك التاريخ وفهمه واستيعاب حقائقه ليس أمراً عاماً وشائعاً، وليس متاحاً أمام كل الناس وكل الفئات الشعبية والاجتماعية والثقافية…
فالصراع الذي جرى ويجري في فلسطين لم يكن موجوداً قبل بداية القرن العشرين، وأول مواجهة جرت بين الفلسطينيين العرب واليهود في فلسطين كانت في “هبة البراق”، ففي الرابع والعشرين من أيلول/سبتمبر 1928، اندلعت هبة البراق في ذكرى “عيد الغفران” لدى اليهود، في ذلك اليوم، قام المصلون اليهود بنصب ستار، للفصل بين النساء والرجال، على الرصيف المحاذي لحائط المسجد الاقصى، الذي يسميه المسلمون حائط البراق حيث يعتقدون ان الرسول محمد ربط دابته البراق، ليلة معراجه الى السماء، فيما يعتبر اليهود انه جزء من هيكل سليمان ويدعونه حائط المبكى، فاحتجت إدارة الوقف الإسلامي واندلعت بعد ذلك صدامات قمعها الانتداب البريطاني في حينها.
الصراع حول فلسطين اتخذ اشكالا مختلفة ومراحل متوالية؛
● تحت بصر الانتداب الانكليزي تفاقمت الصدامات الفلسطينية الاسرائيلية وانتشرت وتفجرت على شكل اضرابات وثورات مسلحة اهمها ثورة 1936 ومواجهات عسكرية قادها الشيخ عز الدين القسام ثم لاحقا عبد القادر الحسيني الذي استشهد في معركة القسطل.. ولم يكن الصراع بمجمله يحمل أية علاقة مع نزعة “معاداة السامية” الاوروبية المولد والمنشأ، ولم يكن استمرارا ولا استئنافا ولا استنساخا للمحرقة الاوروبية لليهود و للهولوكست الاوروبي، بل كانت صراعا بين سكان الأرض الأصليين لفلسطين وجموع من المستوطنين الغرباء قدموا بتشجيع من الانتداب الانكليزي، لاقتلاعهم من بيوتهم وتدمير قراهم وترحيلهم عن ارضهم، ومنعهم من حقهم في العيش بوطنهم وانتزاع حقهم كشعب في تقرير مصيرهم.
● بعد اعلان دولة اسرائيل، تحول الصراع الى سلسلة من الحروب العربية الاسرائيلية، من النكبة عام 1948 الى عدوان 1956 ثم نكسة 1967، وحرب تشرين 1973، وصولا الى حرب لبنان سنة1982..
وكانت الحروب العربية الاسرائيلية هي مواجهات دامية مع كيان استعماري وثكنة عسكرية غربية متقدمة، تحفظ تفوقها العسكري وتقدمها التقني، دول الغرب جميعا، وتتولى مقابل ذلك، مهمة اخضاع المنطقة العربية وحفظ مصالح الغرب وهيمنة دوله على موارد المنطقة واسواقها وثرواتها، وتقوم بتطويع الانظمة العربية وابتزازها…
● بعد حرب تشرين وما تلاها من معاهدات عقدتها الدول العربية لتسوية الصراع، وبعد مؤتمر مدريد 1992 الذي أقر مبدأ الأرض مقابل السلام، وبعد اتفاق أوسلو والذي اعترفت منظمة التحرير الفلسطينية بموجبه بدولة اسرائيل، وبالسعي لحل الدولتين، عبر قيام دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، و بعد المبادرة العربية في قمة بيروت سنة 2002، والتي قبلت بالسلام الشامل وتطبيع العلاقات وإنهاء الصراع مع اسرائيل، بشرط قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود ال67…
بعد كل ذلك، وبعد ان قام اليمين القومي والديني الصهيوني بقتل رابين، ورفضه لقيام دولة فلسطينية قائمة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وسعيه الدؤوب للاستيلاء على الضفة الغربية واستيطانها، اكتسبت اعمال مقاومة الاحتلال الاسرائيلي للضفة وقطاع غزة شرعية اضافية، وغدت مقوننة مشروعة حسب القانون الدولي، واصبح العنف الفلسطيني في وجه الجيش الاسرائيلي او قطعان المستوطنين، حقا مشروعا لكل فلسطيني يمارسه حيث يشاء، فالعنف الفلسطيني عنـف ارتدادي ضد عنف أصلي تمارسه سلطة دولة محتلة، وهذا العنف الفلسطيني فعل من اجل الحرية، تحرّكه أهداف قومية وحقوق وطنية، ويتمثل كحركة تحرير وطني لإنهاء اطول احتلال استيطاني ما زال قائما ولنظام ابارتهايد وفصل عنصري يترسخ ويزداد عنصرية وتمييزا. ولذلك هو ليس ارهابا…
حقائق التاريخ هذه، معروفة ومثبتة لدى الجامعات ومراكز الابحاث والمؤسسات الاعلامية، ولدى الخبراء و النخب القيادية في الاحزاب السياسية، وأولي الأمر والقرار في المؤسسات الأمنية والجيوش العسكرية والدوائر الديبلوماسية والسياسات الخارجية… وعلى الرغم من هذه المعرفة يتم استحضار سردية “المحرقة اليهودية” والتهمة الجاهزة بمعاداة السامية، امام اي نقاش او نقد لسياسات حكومة اليمين الاسرائيلي، وامام اية دعوة لإيقاف جرائم استهداف المدنيين والمستشفيات وقتل الاطفال، وممارسة الابادة الجماعية،
و الطرد والتهجير والعقاب الجماعي الذي يمارسه الجيش الاسرائيلي…
وتنظم في فرنسا مظاهرة كبيرة لادانة ” معاداة السامية” فيما يقتل في غزة 7أطفال كل ساعة.
المأزق اليوم ليس ناتجا عن سوء فهم للتاريخ، ولا عن انحياز سياسي بين فريقين في صراع اقليمي، او عن خيارات تتصل بمصالح اقتصادية او استراتيجية، المأزق اليوم هو ان اطفال فلسطين يجب ان يدفعوا ثمن جرائم اوروبا مرتين؛ الاولى منذ قرن مضى، يوم قرر الاوروبي الغربي ان ينتزع وطن الشعب الفلسطيني من اصحابه ويهبه لضحاياه من اليهود ابناء اسحاق، كتعويض عن جريمته في الهولوكست، هربا من ان يدفع ثمن جريمته من حسابه، والثانية اليوم حيث تُجَدِّدُ العنصرية الاوروبية شبابها بشكل اكثر وحشية ودموية، ك “معاداة لسامية اخرى” من ابناء اسماعيل، فاطفال غزة ساميون ايضا!!؟
و لذلك تقوم حكومات اميركا وكندا وبريطانيا والمانيا وفرنسا، برفض الدعوة لوقف اطلاق نار يوقف المذبحة، ويعطي مجرمي الحرب في اسرائيل ترخيصا غير مقيد للقتل وسفك الدماء.
المصدر : خاص