إهراءات المرفأ أنقذت بيروت من فاجعة أكبر بكثير ..!

في ذلك المساء من الرابع من شهر آب، توقفت عقارب الساعة عند الساعة السادسة وست دقائق، علماً بأن الوقت ما زال يركض فينا. إنفجار هز فدمر وقتل وشرد وأصابت شظاياه بصورة مباشرة قلوب جميع اللبنانيين.
في مرفأ بيروت حيث وقعت الكارثة، كل شيء مهدم، الا قطعة من الباطون المسلح تنتصب بقوة قيل عنها، انه لولاها لكان الدمار شاملاً، اذ انها حجبت جزءاً من الإنفجار من الناحية الجنوبية وأرسلت جزءاً منه الى البحر، وهذا ما أنقذنا من فاجعة أكبر بكثير.
جدل كبير أثير في الأيام الماضية عن إهراءات القمح، من مول بناءها وفي أي عهد، وأسئلة كثيرة سئلت عن سبب صمودها، وأجوبة عدة أعطيت منها ما هو مفبرك ومنها ما يخبر نصف الحقيقة.
الشق الحقيقي من قصة بناء الإهراءات أنها بنيت بين الأعوام 1965 و1970 على عهد الرئيس شارل حلو، اذ اتخذت الحكومة اللبنانية آنذاك قرار بناء “صوامع بيروت” لحماية القمح من الرطوبة والقوارض، حيث أن العنابر الأربعة القديمة لم تعد تكفي لتخزين كمياته. وتولت شركة تشيكية بناء الصوامع الجديدة والضخمة وذلك بهبة من دولة الكويت الشقيقة ، التي حضر حفل الإفتتاح أميرها حينها، الشيخ صباح السالم الصباح.
نصر
إنما ما هو سر هذه الإهراءات التي صمدت في وجه ثالث أكبر قوة إنفجار في العالم، ومن يقف خلف هذا الموضوع؟
يوضح المهندس المدني الدكتور جورج نصر: “تم التصميم الإنشائي للإهراءات بواسطة الدكتور جاك نصر (1916-2002)، والدي، الذي كان أحد المهندسين الإنشائيين الرواد في الشرق الأوسط والذي حصل أيضا على براءة اختراع على تصاميم خرسانية رقيقة. وفي حين تولت الشركة التشيكية الشق التنفيذي من المشروع، عمل الدكتور نصر على تطويره وتعزيزه”.
أضاف: “في هذا الصدد، أخذ الدكتور جاك نصر في الإعتبار عاملين مهمين في تصميم صوامع بيروت، غالباً ما يتم تجاهلهما في تشييد مثل تلك الإنشاءات. كان يعلم أن الصوامع “يمكن أن تفشل” بشكل غير متوقع بطريقتين رئيسيتين.
أولاً، في بعض الحالات عندما يتم ملء الصوامع بسرعة كبيرة، ينتهي الأمر بالحبوب المخزنة “بالضغط على الجدران”، مما يؤدي إلى ضغط أكبر بثلاث إلى خمس مرات من الضغط “الهيدروستاتيكي” الذي على اساسه تم تصميمها. ثانيا، يجب أن تكون الصوامع مصممة بطريقة خاصة لتحمل الإنفجارات، حيث قد تشتعل الحبوب الداخلية وتنفجر في ظل ظروف معينة”.
وعن والدها تخبر الدكتورة إيلين نصر: “كان والدي أول حامل للدكتوراه في الهندسة في الشرق الاوسط وأول متخصص في الإسمنت المسلح، عمل مستشاراً في مشروع بناء إهراءات مرفأ بيروت، كما هو الحال في العديد من المشاريع الأخرى في لبنان مثل مبنى اللعازارية الذي كان حينها أطول بناء في الشرق الأوسط، ووزارة الدفاع وكازينو لبنان وتمثال يسوع الملك والعديد من الجسور والمجمعات والجامعات.
وأجرى الدكتور نصر تغييرين حاسمين على تصاميم البناء، وهما مسألة الضغط الكبير الذي تولده الحبوب، وإمكانية أن تنفجر. تم دمجهما في الخطط النهائية للمقاول التشيكي، مع احتمال حدوث ذلك أثناء الزلزال. كما درس هذه النقاط في كل صفوف الهندسة وكل طلابه يعرفون هذه القصة”.
أضافت: “كان أبي رائداً في تطبيق بعض أساليب التصميم الإنشائي الأميركية التي تم تطويرها في الفترة الاخيرة، واستخدمها لتصميم صوامع لم تكن مقاومة للزلازل فحسب، بل يمكنها أيضا حمل أحمال عالية غير متوقعة. كان المبنى ساحة معركة خلال الحرب اللبنانية 1975-1990، لكنه بعدها لم يكن يتطلب سوى بعض “اللمسات” ليعود الى سابق عهده. وفي التسعينيات، كان المطورون لا يزالون يشعرون بالثقة في تصميم الهيكل وسلامته وتمت اضافة المزيد من الصوامع إليه”.


معلم تاريخي
اليوم، هناك اقتراحات كثيرة بأن يترك هذا المجسم ويتم تحويله الى معلم تاريخي لتكريم جميع الشهداء الأحياء والذين رحلوا “كي لا ننسى” ما حل بنا نتيجة هذه الفاجعة، وأن نتعلم من هذا الدرس القاسي. وتشبه بقايا إهراءات بيروت الى حد بعيد، أعمدة معبد جوبيتر في مدينة الشمس بعلبك التي بدأ ببنائها الفنيقيون على غرار مرفأ بيروت، والتي أطلق عليها الرومان قديماً “إهراءات روما” لوفرة محاصيلها الزراعية، حتى إنها أضحت مستودعاً يمدهم بالقمح تماماً مثل الإهراءات، التي لو حكت، لأخبرت.

المصدر : وطنية – تحقيق كاتيا شمعون

لمشاركة الرابط: