قبل أن تتسلل أشعة شمس الصباح بهدوء من فوق صخور” قلعة المدقر” وتنشر خيوطها الذهبية على الساحة ، كان أهل القرية يتحركون ببطء ونشاط إلى أعمالهم اليومية في الحقول والكروم كل على دابته مبكراً يغدو الى حقله ، فترتفع أصوات الأهل والأصحاب في السلام على بعضهم ومناقشة أمورهم وأعمالهم ، ولكن من كان منهم قد قرر الذهاب إلى خارج الضيعة ، كان عليه إتباع طريق آخر فيه كسر للروتين اليومي ، كالذهاب الى زحلة مثلاً لزيارة الطبيب أو المصور أو لشراء الحاجيات ، وهذا لم يكن حينها بالأمر العادي وبالتالي فقد كان يحتاج ل “تخطيط مسبق ” .
طقوس التنقل
في مطلع السبعينيات كانت سيارات القرية قليلة ، لايتجاوز عددها عدد أصابع اليد الواحدة ، فإذا قررت مغادرتها كان عليك زيارة العم أبو حسين * مسبقاً في منزله المزروع في سفح الجبل ، عند أعلى نقطة وصلها البناء حينها ، لتحجز لك مكاناً في سيارته المرسيدس ال180 السوداء ، على أن تنتظره عند السابعة من صباح اليوم التالي عند مفترق “جامع الخربان” …. لتأخذ مكانك داخل المقصورة الحمراء الأنيقة المزينة بالإسفنج المطرز ، مجاوراً من حجز قبلك وبعدك من الأصحاب والجيران ، وحينما يصبح “الطلب” جاهزاً ، تعلن دقات ساعة بيغ بن عبر إذاعة لندن بداية نشرة الأخبار في راديو المرسيدس ، فتحين لحظة الإنطلاق .
في الطريق كان العم أبو حسين يقود سيارته بهدوء وإنتباه شديدين ماراً بالقرى المجاورة بإتجاه زحلة ، لازحمة ولا عجقة سيارات فعدد السيارات التي تسير على الطريق قليل ، وكذلك حركة المارة أيضاً ، وبيوت القرى متباعدة عن الطريق الرئيسية المؤدية الى المدينة العريقة .
في السوق
غالباً ما كانت زيارة مدينة زحلة عاصمة البقاع الإدارية والتجارية ، لإنجاز عدة أعمال مجتمعة ، قد تكون لزيارة الطبيب فتتوسع لشراء الأغراض والأطعمة والألبسة التي لم تكن متوفرة خارجها ، ويمكن أن يتطور الأمر وتنتهز الفرصة للتنزه على ضفة نهر البردوني ، وكان مجراه نظيفاً والماء النقي ينساب بين ضفتيه ، ولا بأس حينها بأن تشتري سندويشة دجاج من مطعم مسعد مع قنينة “كازوز” ، بإنتظار رحلة العودة مع العم أبو حسين بعد الظهر ، كما كان من المسموح للركاب أن يستغلوا وقت الإنتظار في شراء ما تيسر من المحلات القريبة ، ليعودوا الى البيت بربطة من “خبز زحلة” ، وهي التسمية التي كانت رائجة لخبز الفرن الآلي الحالي ، وكان حينذاك غير مألوف في مواجهة خبز الصاج الذي كانت الأمهات تتقنه جيداً ، والعودة كذلك بكيس كعك للسهرة يقدم مع الشاي المغلي بزهر الزعرور والزوفة أو التين الأسود المجفف ، التي كانت تشكل حينها علاجاً ناجعاً لمعظم الأمراض التي كانت تصيب أهل الضيعة
رحلة العودة
لم تكن رحلة العودة بعد الظهر بالسهولة المتوقعة ، إذ كان الأمر يقتضي حساب الوقت بدقة للعودة مع العم أبو حسين ، وإذا تأخرت عن موعد الرجوع فما عليك سوى إنتظار أحدى سيارات الأجرة المتجهة الى حاصبيا أو راشيا المجاورة ، أو “بوسطة” كامد اللوز إذا حالفك الحظ ، وإلا قد تنتظر لوقت طويل عند تمثال “عروس زحلة” التي كانت تحمل عنقود العنب وما تزال عند مدخل المدينة ، كي تمر سيارة لتقلك في طريق العودة الى الديار ، فالسيارات معدودة وأصحابها معروفون بالإسم ، لأنهم كانوا يتوقفون صباحاً في محطة الحاج أبو يحيى التاريخية – رحمه الله – للتزود بالوقود في رحلة الذهاب ، وبفترات متباعدة كانت تسمح للأولاد ونحن منهم ، بأن يلعبوا على “الكروسه” بعرباتهم الخشبية المصنوعة يدوياً والتي تسير ب “دواليب الخرز” ، وهي التسمية المحلية ل “رولمانات” مأخوذة من محركات السيارات وكان يتم تداولها بين الأولاد حينها كعملة نادرة .
هكذا كان يتم التنقل بالسيارة في مطلع السبعينيات بالإعتماد على سيارة العم أبو حسين رحمه الله تعالى ، قبل أن يتم اعتماد “بوسطة” للنقل المشترك في مطلع الثمانينيات من الضيعة مروراً بمحطة شتورة فزحلة نزولاً إلى بيروت ، مع توفر العديد من السيارات الخاصة ، وتلك حكاية أخرى …!
*العم أبو حسين أحمد عبد الجليل رحال رحمه الله