يبدو الحديث عن عودة اللاجئين السوريين الطوعية والآمنة والوشيكة إلى بلادهم غير واقعي قبل الوصول إلى تسوية سياسية شاملة في سوريا. إلا أن الاقتراحات الروسية هي أول مبادرة صادرة عن جهة دولية تتوخّى الوصول إلى حلٍّ شاملٍ لأزمة اللاجئين السوريين في لبنان والأردن وتركيا وأوروبا، يحقق تحقيق عودتهم إلى أماكن إقامتهم الأصلية.
حتى الآن لم تحظ المبادرة بالإستجابة التي توقّعتها موسكو من الدول الأوروبية كما لم تظهر أي استجابة أميركية بشأنها. وتشترط الأطراف الدولية إشراف الأمم المتحدة ممثلةً بالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) على عملية العودة وضمانها واعتماد المعايير الضرورية لتحقيقها.
تبدو المبادرة الروسية مشروطة التحقيق بحصولها على تأييد دولي، لذلك فإن التعاطي الرسمي مع المبادرة الروسية مدعو أن يترافق مع ممارسة الديبلوماسية اللبنانية دوراً فاعلاً وصولًا إلى إثارة القضية في مجلس الأمن الدولي.
تشكل المبادرة فرصة للدولة اللبنانية لتولي قضية العودة الأهمية التي تستحق من خلال سياسة وطنية واضحة تستند إلى معايير القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان والتزامات لبنان الدولية وحماية سيادته. ويقتضي ذلك أن يأخذ رئيس مجلس الوزراء فور تشكيل الحكومة الجديدة مبادرة إعادة تشكيل اللجنة الوزارية المكلَّفة متابعة شؤون النازحين وضمّ ذوي الخبرة والمعرفة إليها لتقوم بدورها كاملًا وتفعيل دور وزارة شؤون النازحين، كي لا يقتصر العمل في هذه القضية على تكليف أجهزة أو أفراد معيَّنين بمهام محددة.
حول المبادرة
أعلنت روسيا إطلاق مبادرة تقترح فيها إعادة اللاجئين السوريين إلى ديارهم، وذلك بعد أيام على لقاء القمة بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب في العاصمة الفنلندية هلسنكي في 16 تموز/يوليو2018. وعلى الرغم من أنَّ الاجتماع ركّز على أمن شمال إسرائيل، فإنَّه أعطى زخمًا لإطلاق حركة ديبلوماسية على الصعيد الدولي حول عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم.
وتكتسب المبادرة الروسية، والتي لم تتَّضح ملامحها كافة بعد، أهميتها من كونها الأولى التي تصدر عن جهة دولية، مقترحةً إيجاد حلٍّ شاملٍ لأزمة اللاجئين السوريين في لبنان والأردن وتركيا وأوروبا، يقضي بإعادتهم إلى أماكن إقامتهم الأصلية، وهذه مسألة بالغة الأهمية في ظلّ التغيير الديموغرافي الجاري.
وتلفُّ الخطة الروسية تساؤلات حول إمكانية تنفيذها وتأمين التأييد الدولي المطلوب من جهة، وتأمين موافقة حليفي روسيا في الداخل السوري – أي النظام السوري وإيران – اللَّذيْن تتنوع وتتشابك أهدافهما المرحلية وبعيدة الأمد من جهةٍ أخرى. ولا يزال يكتنف المبادرة غموض وتساؤلات حول حجم عملية العودة والضمانات التي يمكن لروسيا أن تقدّمها لتأمين سلامة اللاجئين العائدين، فضلًا عن التنسيق مع الأمم المتحدة. وقد وصفت بعض المصادر المبادرة بـ “الطموحة جدًا” لناحية الإطار الزمني المقترح. ورأت مصادر أخرى أن أرقام اللاجئين المزمع إعادتهم لا تشي بشمولية هذه العودة، بل بعودة إنتقائية لجزء من اللاجئين وفقًا لسياسات تحدّدها دمشق.
وتأتي المبادرة في إطار هدف روسي يقضي بإعادة تأهيل النظام السوري على الساحة الدولية وحثّ الفرقاء الأوروبيين والأميركيين والإقليميين على تطبيع العلاقات معه، مقابل إعادة اللاجئين بعد أن بات بقاؤهم في الدول المضيفة ضاغطًا على غير صعيد. بالإضافة إلى ذلك، تسعى روسيا إلى تأمين التمويل اللازم لإعمار المناطق المنكوبة في سوريا، والمرشَّحة مبدئيًا لإستقبال اللاجئين.
وتتزامن المبادرة مع تسليم حكومة دمشق خلال الأيام الماضية، دوائر النفوس في مناطق عدّة من ريف دمشق وحماة وريفها، قوائمَ بأسماء معتقلين قالت إنهم قضوا في السجون، كما يتصاعد الحديث في أعقاب مقتل أكثر من 200 شخص، معظمهم من المدنيين، في هجوم تنظيم “الدولة الإسلامية” على عاصمة محافظة السويداء وبعض القرى فيها، وهي مناطق تسيطر عليها قوّات الحكومة السوريَّة إلى حدٍّ كبير منذ العام 2011. وتأتي المبادرة أيضًا في سياق معركة محتملة في إدلب، وتغييرات ديموغرافية كالتي حدثت في كفريا والفوعة (سكانها من الشيعة)
ولا يمكن عزل المبادرة الروسية، التي لم تقدِّم حلًّا لمشكلة استدعاء السوريين إلى الخدمة العسكرية الإلزامية، عن إمكانية السعي لإعادة بناء الجيش السوري الذي أفرغت سنوات الأزمة الثماني خزانه البشري.
وفي لبنان يجري الحديث عن المبادرة في الوقت الذي يواجه تشكيل الحكومة عددًا من الصعوبات. وتأتي مبادرات غير رسمية لإعادة اللاجئين السوريين بأعداد قليلة بعد أن يجري التدقيق بأسمائهم في دمشق وفي مكاتب حزبية على الأراضي اللبنانية.
لقد قدَّم المسؤولون الروس اقتراحات بشأن 76 مكانًا داخل سوريا مرشَّحًا لإستقبال اللاجئين، مرفقة بتعداد الإحتياجات المختلفة للعودة ، ومنها تأمين الإنتقال وبناء ما تدمّر في الأمكنة المذكورة. وتمَّت مناقشة هذه الإقتراحات من قبل وفد روسي كبير برئاسة المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف مع بعض الدول ومع رئيس الحكومة والمسؤولين الكبار في لبنان.
المبادرة من منظور دولي
وتبدو المبادرة الروسية مشروطة التحقيق بحصولها على تأييد دولي في مجلس الأمن، غير أن المحاولة لم تنل حتى الآن الإستجابة التي توخّتها موسكو من الدول الأوروبية.
ولم تظهر أي استجابة أميركية. كل ذلك يعزز الاعتقاد بأن الأطراف المعنية بالصراع السوري لا ترى حاليًا فرصة لحلّ هذه القضية وتخطي العوائق السياسية والعسكرية التي تؤخر العودة.
ويعود هذا التردد الغربي إلى حذر الدول، أو أكثرها، من التطبيع مع النظام السوري واشتراطها معرفة مصير الرئيس السوري بشار الأسد ، وحال المسار السياسي لحلّ الأزمة في سوريا. ويعود أيضًا إلى عدم استعدادها للمقايضة اليوم بين إعادة اللاجئين الجزئية أو حتى الرمزية والشروع بإعادة الإعمار.
وتُثير مسألة الضمانات التي يمكن لروسيا أن تُقدِّمها حول سلامة اللاجئين العائدين تحديّا آخرًا. فأكثرية الدول المعنية تشترط إشراف الأمم المتحدة ممثلة بالمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين (UNHCR) على العملية وضمانها اعتماد المعايير الضرورية لتحقيق عودة آمنة وطوعية. وهذه العودة لا تبدو مضمونة، فالترتيبات الآمنة التي يجري الحديث عنها هي على غرار تلك التي نُفِّذت في المصالحات المحلية في سوريا وخلال إدارة مناطق خفض التصعيد.
كما تُثير هذه المبادرة أسئلة أخرى حول وجود خطة تتوافق مع رؤية بشأن إمكانية توفير البنى التحتية اللازمة لإستقبال اللاجئين العائدين والعمل على اندماجهم في المجتمع السوري.
المبادرة من منظور سوري
بعبارة أخرى، يبقى المشروع الروسي لعودة اللاجئين إلى “الأماكن التي هُجِّروا منها” غير قابل للتحقيق إلا على نطاق ضيق جدًّا للأسباب الكثيرة التي تمَّ ذكرها ولِتَعارُض عودة اللاجئين إلى ديارهم مع سياسة التغيير الديموغرافي التي ينتهجها النظام السوري.
ولعلّ النظام السوري، مدعومًا من روسيا، مستعدٌّ للتفاوض على عودة فئة قليلة من اللاجئين ومقايضتها بملفات عائلات مقاتلي تنظيم “الدولة الإسلامية” والسعي للحصول على مكاسب بمقابلها.
بناءً على كل ذلك، يبدو الحديث عن عودة اللاجئين الطوعية والآمنة والوشيكة غير واقعي قبل الوصول إلى تسوية سياسية شاملة في سوريا.
تعاطي لبنان مع المبادرة
تلقَّف رئيس مجلس الوزراء المكلَّف سعد الحريري المبادرة الروسية بعد أيّام من إعلانها، وأصدر في 21 تموز/يوليو 2018، بيانًا أعلن فيه طلبه من فريقه التواصل مع المسؤولين الروس للوقوف على تفاصيل الاقتراحات التي أعلنتها موسكو بخصوص عودة اللاجئين السوريين من لبنان والأردن.
وتبع ذلك تحرُّك روسي حين زار القائم بأعمال السفارة الروسية في بيروت رئيس الوزراء اللبناني لبحث المبادرة الروسية، قبل أن يزور المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا ألكسندر لافرينتييف ونائب وزير الخارجية سيرغي فيرشينين لبنان في 26 تموز/يوليو ويلتقيان بكل من رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة الذي اجتمع مُطوَّلا مع الوفد الزائر.
على الرغم من الصورة غير المكتملة حتى الآن للمبادرة الروسية، فإنَّها تُشكِّل فرصة للدولة اللبنانية لتولي قضية العودة من خلال سياسة وطنية تحل مكان المبادرات الحزبية. ومن شأنها أن تُعزِّز دور الرئيس الحريري في صنع القرار الوطني.
لعلَّ تلقف الرئيس الحريري للمبادرة خفّف من حدَّة السجال الداخلي اللبناني بين الأطراف السياسية حول مسألة عودة اللاجئين إلى ديارهم، غير أنه لم يغيِّر شيئًا في الإنقسام الداخلي العميق حول التعامل اللبناني الرسمي مع النظام السوري.
ويبدو للكثيرين أن التريُّث في أمر المبادرة له ما يبرره حتى معرفة نوايا النظام السوري الحقيقية وسياساته الفعلية حول القضية والتأكد من جديّة الضمانات الروسية الأمنية، والحصول على موافقات الدول الغربية.
ثلاثة شروط
مهما يكن من أمر، فقد طلب رئيس الحكومة اللبنانية من روسيا تأمين شروط ثلاثة:
1-عدم مصادرة أملاك الغائبين (وهو ما شرَّعه القانون رقم 10 الصادر مؤخرًا واستثناؤهم من الخدمة العسكرية، وإصدار عفو عام عن المطلوبين.
2-أن تتولى المفوضية السامية لشؤون اللاجئين (UNHCR) تنسيق عمليات عودة اللاجئين السوريين وفق المبادرة الروسية، والإشراف عليها.
3- الفصل بين الضمانات الأمنية الروسية، وبين الدعوة إلى التطبيع السياسي مع النظام السوري.
المعايير المعتمدة
ويُعتبر ذلك أمرًا أساسًا، خصوصًا لناحية المعايير المعتمدة لضمان سلامة اللاجئين العائدين: ترى روسيا أن سيطرة النظام على المناطق هو الضمانة لجعلها آمنة للعودة مما يتناقض مع أداء الأجهزة الأمنية في مناطق المصالحات، بينما تتمسك مفوضية اللاجئين ببروتوكول الضمانات وفقًا للمقاييس الدولية، وهذا ما يجب أن تلتزم المبادرة الروسية به.
إن التعاطي الرسمي مع المبادرة الروسية يجب أن يترافق مع ممارسة الديبلوماسية اللبنانية دورًا فاعلًا وصولًا إلى إثارة القضية في مجلس الأمن الدولي.
كما يقتضي أن يأخذ رئيس مجلس الوزراء فور تشكيل الحكومة الجديدة مبادرة إعادة تشكيل اللجنة الوزارية المكلَّفة متابعة شؤون النازحين وضمّ ذوي الخبرة والمعرفة إليها لتقوم بدورها كاملا وتفعيل دور وزارة شؤون النازحين، كي لا يقتصر العمل في هذه القضية على تكليف أجهزة أو أفراد معيَّنين بمهام معيَّنة.
وفي هذا السياق من الضروري تشكيل حكومة لبنانية جديدة تأخذ بالإعتبار وضع سياسة عامة واضحة تستند إلى معايير القانون الدولي الإنساني وقانون حقوق الإنسان الدولي والتزامات لبنان الدولية كما حماية سيادة لبنان. ومن المطلوب أيضًا أن تتم عقلنة التعامل مع هذا الملف، لناحية التوجه إلى التفكير بإدارة أزمة اللجوء السوري.
ورقة تقدير موقف ، إعداد وكتابة ردينة البعلبكي، منسقة برنامج الشؤون العربية والدولية في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في الجامعة الأميركية في بيروت بإشراف مدير الأبحاث في معهد عصام فارس ، ناصر ياسين.
ردينة البعلبكي*
باحثة لبنانية ومنسقة برنامج الشؤون الدولية في معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت.