علي جابر
لن أنسى 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989. يومها كنت في طريقي إلى مكتب رويترز في بيروت لإرسال مقال صغير عن ذكرى عيد استقلال لبنان. فجأة، ومن على بعد نحو 100 متر وقع انفجار ضخم أمامي. نظرا لخبرتي في مجال إسعاف الجرحى جراء عملي التطوعي في الصليب الأحمر اللبناني اتجهت مباشرة إلى مقر الانفجار.
قبل لحظات من تطويق الجيش السوري المكان، وجدت نفسي وحيدا أتفحص هوية الضحايا ولاحظت أنّ المستهدف في العملية رئيس جمهورية لبنان آنذاك رنيه معوض. كان ملقى خارج سيارته على الأرض جثة هامدة.
بعد وصول الإسعاف، لم أر أمامي إلا خياراً واحداً. تسللت خارج الطوق المفروض، لأكتب وسط هذه الجلبة مقال لصحيفة «نيويورك تايمز» تحت عنوان «مقتل رئيس الجمهورية اللبنانية في سيارة مفخخة ضد موكبه». أرسلته إلى الصحيفة في الوقت الذي سعى النظام السياسي في لبنان حينها إلى عدم تأكيد الخبر، لكسب الوقت وتحضير بديل لتسلم الكرسي الرئاسي.
كنت الصحافي الوحيد الشاهد على اغتيال الرئيس في الوقت الذي حاول جميع السياسيين اللبنانيين نفي ما رأيته. رفض رئيس تحرير «نيويورك تايمز» نشر الخبر، وطلب مني الحصول على تأكيد رسمي. سعيت جاهداً من خلال معارفي وقنواتي أن أحصل عليه لكن من دون جدوى. أكدت لرئيس التحرير أنّني رأيت الحادثة بأم عينيّ، فجاء رده أنّ ذلك غير كافٍ، وأضاف، «لربما كانت قد خانتك عيناك»، في حين لم تكن أي وكالة أنباء محلية أو عالمية قد أكّدت خبر مقتله. وحسب رأيه، فإنّ الصحافة عملية التأكد من الأخبار، وليس كتابتها فقط.
منذ الساعة الثانية عشرة ظهرا وحتى الخامسة مساء، لم تتضاءل محاولاتي تأكيد الخبر، إلى أن حظيت به من مكتب رئاسة الوزراء. وسرعان ما نقلته إلى رئيس التحرير، لينشر في صدر الصفحة الأولى من جريدة نيويورك تايمز، وللمرة الأولى يكتب اسمي بصفتي مصدر الخبر وكاتبه.
في اليوم التالي عند صدور الجريدة، اتصل بي رئيس التحرير وهنأني قائلا، اليوم أصبحت صحافيا حقيقيا.
«بروزت» هذه النسخة ولم تفارق مكتبي حيثما ذهبت. ذكرتني بمسؤوليتي الصحافية عندما كنت مراسلا للتايمز اللندنية ووكالة الأنباء الألمانية في التسعينات، ورافقتني في تأسيس تلفزيون «المستقبل» وقناة «زين». اصطحبتها معي إلى دبي حيث تدرّجت مسيرتي المهنية عندما كلفني الشيخ محمد بن راشد مهمة إعادة إطلاق قنوات مؤسسة دبي للإعلام.
ولا تزال الصفحة الأولى قابعة في مكتبي حتى اليوم، في «إم. بي. سي». على وقعها تمضي يومياتي كمدير عام للقنوات، تساندني في أكبر تحدياتي كمشرف على تخطيط المحتوى الإعلامي لقنوات الشبكة التلفزيونية العربية الأكثر تأثيراً في العالم العربي.
سنوات كثيرة مرّت، وما زلت أروي قصتي هذه لطلاب الصحافة في كلية محمد بن راشد للإعلام، وأسردها في جميع محاضراتي التي ألقيها حول العالم، مؤكّداً لهم بعد تجربتي، أنّ الصحافة مهنة نبيلة تتطلب مسؤولية كبيرة، لذا وجب علينا توخّي الحذر في كل ما نكتبه وننشره. مسؤوليتنا الأساسية هي التأكد من الخبر وصحّته قبل نقله للقارئ، والعمل على تجنب إيذاء الناس. يجب أن نسعى دوما إلى التوفيق بين هذين المبدأين على الرّغم من صعوبة الأمر في بعض الأحيان.
* عميد «كلية محمد بن راشد للإعلام»
ومدير عام القنوات في مجموعة «إم بي سي»
(نقلاً عم جريدة الشرق الأوسط )