
في زمن يُفترض فيه أن تكون الانتخابات البلدية فرصة لترميم البيت الداخلي، ورسم معالم مستقبلٍ تنمويّ أفضل، تحوّلت المنصّات الرقمية إلى ساحة حرب شرسة، تنهش ما تبقى من نسيجٍ اجتماعي هشّ في بلداتٍ لم تلملم بعد جراحها. ومع انطلاق السباق البلدي، لا سيما في الجنوب اللبناني الذي يرزح تحت آثار الدمار والإهمال، شهدنا مشاهد غير مسبوقة من “سوء استخدام وسائل التواصل الاجتماعي” تحوّلت معها السياسة إلى أداة تحريض وتهشيم، بدل أن تكون وسيلة بناء وارتقاء.
بيانات… وبيانات مضادة
في مشهد مكرّر عبر صفحات “فايسبوك” و”واتساب” وفي ظل غياب تام للرقابة الرسمية في لبنان ،تتناقل مجموعات أبناء البلدة الواحدة بيانات وبيانات مضادة، مليئة بالتجريح والتشهير والتلميحات المسمومة. باتت كل كلمة محسوبة، وكل صورة مُفخخة، وكل تعليق مشبوهاً بولائه.
منبر للبناء أم لتكسير الرؤوس
تحوّلت خاصية “البث المباشر” (Live)في الأونة الأخيرة إلى وسيلة خطرة، يُستخدم فيها الكلام لتصفية الحسابات، والتشهير بأسماء وعائلات ورموز، فقط لأجل كرسي بلدي أو موقع تنظيمي. لا خطوط حمراء تُحترم، لا تاريخ يُصان، ولا مكانة اجتماعية تُراعى. حتى كبار البلدة، من وجوهها التاريخية الذين دخلوا مواقفهم المشرفة في صلب الذاكرة الوطنية، لم يسلموا من هذا التعرّض والإسفاف.
بلدات تسير إلى الوراء
بدل أن تتوحد جهود أبناء البلدات، خصوصًا في الجنوب الذي أنهكته الحروب والإهمال، حول مشاريع إنمائية لإعادة الإعمار ومحاسبة المتسببين في ما آلت إليه الأوضاع، اختار البعض أن يتفرّغ لصناعة معارك “افتراضية” عقيمة. معارك لا تنتج إلا شرخاً عميقاً بين الناس، وتزيد من قبح المشهد السياسي والاجتماعي.
استسهال الإهانة… وإعادة تعريف “الكرامة”
صار من الطبيعي أن يخرج أحدهم في بث مباشر ليصف خصومه بـ”السارقين” و”الخونة” و”العملاء”، دون دليل، ودون محاسبة. تختلط الاتهامات بالشتائم، ويغيب الحسّ الأخلاقي، وتُغتال الكرامة تحت عنوان “حرية التعبير”. كل ذلك لأجل مقعد بلدي قد لا يملك صاحبه فيه حتى صلاحية تعبيد طريق.
الانهيار الأخلاقي يُضاف إلى الاقتصادي
ما تشهده هذه القرى والبلدات ليس مجرد خلاف سياسي. إنه انهيار أخلاقي وقيمي يُضاف إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والمؤسساتي. بلدات عريقة بتاريخها وشخصياتها، صارت مسرحًا للإهانات والتشهير، بعد أن كانت تُعرف بتقاليدها الاجتماعية الراسخة، التي تحفظ الكلمة وتُكرّم الكبير وتَصون الأعراض.
من المسؤول؟
لا شك أن المسؤولية مشتركة وتتحمّل الأحزاب والقوى السياسية مسؤولية “تسليع” الانتخابات وتحويلها إلى اختبار ولاء لا خطة عمل،ويتحمّل المواطن بدوره مسؤولية الانجرار خلف غرائز الانتقام الرقمي، بدل الاحتكام إلى الحوار والانفتاح.
في ظل هذه الفوضى، تبدو الحاجة ماسّة إلى ميثاق شرف انتخابي رقمي، يُجرّم التشهير، ويُحاسب من يُسيء، ويُعيد تعريف الخطاب السياسي، خصوصًا في بلدات الجنوب التي يفترض أن تكون اليوم في موقع التضامن والتكافل، لا التقاتل والشتات.
البلديةليست حربًا ولا نزالًا على أرض “فايسبوك”، بل مسؤولية إدارة الحياة اليومية للناس: نفاياتهم، طرقهم، مدارسهم، أمنهم، كرامتهم. وإن كان السبيل إلى نيل هذه المسؤولية هو تقطيع أوصال المجتمع وتحقير أهله على الهواء مباشرة، فماذا بقي من روح البلدة… وماذاننتظر
من هكذا مجالس
إكرام صعب[email protected]